نقرأ في إنجيل البشير لوقا عن عظة المسيح بالمجمع اليهودي بمدينة الناصرة:: «وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُم» (لوقا ٤: ١٦-٢١).
وأول ما نلاحظه في هذا النص هو التزام المسيح بالتعليم والحياة اليهوديْين. يقول البشير إن المسيح «وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْت» (١٦). ألا يغيب هذا المفهوم عنا كمسيحيّين كثيرًا: أن المسيح عاش كيهوديّ وتربّى على تعلُّم كلمة الله الواردة في العهد القديم؟ لقد خُتن المسيح وهو رضيع في اليوم الثامن لميلاده، وعاش صبوته كيهوديّ، إذ أورد البشير أن أَبَوَيّ يسوع «كانا يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ» (لوقا ٢: ٤١) وحينما «فُقد» يسوعُ في الهيكل وهو بعدُ صبيّ، وبحث عنه أبواه حتى وجداه، قال لهما: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (٢: ٤٩) (أي في بيت أبي).
ونحن، هل نواظب على حضور اجتماعات كنائسنا؟
يُحرضنا الوحي المقدّس قائلّا: «غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا وبالأكثر على قدر ما تروْن اليوم يقرُب» (العبرانيين ١٠: ٢٥). كيف هي حال مواظبتنا على حضور بيت الرب؟ ثم إن الرب لم يحضر فقط اجتماعًا للعبادة، بل إنه أيضًا «قام ليقرأ في الأسفار المقدسة». هذا معناه أنّه كان شريكًا في الخدمة المقدَّسة في بيت الرب. يا له من امتياز كبير أن يُشركنا الرب في شرف خدمته!
وثاني ما نلاحظه أن الرب قرأ ما ورد في سفر إشعياء الفصل ٦١ «رُوح السيد الرب عليّ». يا لها من مصادفة جميلة! مهلًا. ليست مصادفة! لقد اعتاد اليهود على قراءة أسفارهم المقدسة، كل سبت، بحسب ترتيب ورودها. وكان من ترتيب عناية الله أن يُقرأ هذا المقطع من كلمة الله في حُضور المسيح؛ المسيح الذي يتكلَّم عنه النبيُّ في هذا الجزء، بالوحي المقدس، قبل أن يتجسّد المسيح بنحو سبعمائة سنة. إنّ هذه الآيات ترد في سياق نبوّة بالغة الجمال، تهز الكيان بما فيها من بهجة اليقين، بأن مقاصد الله سوف تتّم في أرضنا على نحو باهر. إنّ نور الحياة الأبدي سوف يشقّ عتمة الأرض. فشكرًا للرب من كل القلب لأن ترتيباتِه لا تفشل، وشكرًا له إذ لا يمكن للظلام الروحيّ أن يستمر أو يدوم.
ثالثًا، ما الذي يقوله لنا نبيُّ الله إشعياء في كتابه الذي قرأ منه المسيح؟ يقول لنا إن أورشليم الجديدة سوف تكون آية في المجد والبهاء، بل ستكون مركز نور في العالم كله، لأن مجدَّ الرب السرمديّ سوف يستقر عليها. فلئن كانت الأرضُ كلُّها غارقةً في الوحل والظلام الدامس، لكن النورَ الإلهيّ سوف يشرق على أورشليم، وستكون النتيجةُ المباشرة لذلك أن الأمم المحيطة سوف تسرع للابتهاج بنورها. سيعود المسبيّون من سبيهم، بل حتى الذين هدموا المدينة في السابق سوف يأتون للاشتراك في إعادة تعميرها وبناء أسوارها. وفي ظل بركة هذا الحضور الإلهي سوف لا تغلق أبوابها نهارًا ولا ليلًا، ممّا يعني التمتُّع الدائم بالأمان الكامل. ستزدهر المدينة ازدهارًا عظيمًا حتى يحل الذهب والفضة محل النحاس والحديد. سيسود البر والسلام سيادة كاملة وبالطبع يذكِّرنا هذا الوصف للمدينة بما ورد في سفر الرؤيا الفصل ٢١ عن أورشليم السماوية.
رابعًا، وهذا هو لب الموضوع وجوهره: ما موضوع النص الذي يتكلّم فيه الوحي المقدّس هنا؟ إنه عبد الربّ في سفر إشعياء .. لم يعد لدينا شك أن «عبد الرب» هو «المسيّا»؛ مسيح الله الآتي في ملء الزمان الذي مسرّة الرب بيده تنجح. من هو هذا المسيح وما مهام دعوته وتوصيف إرساليته؟ إن مسيا الله يأتي لكي يُخبر الأمناء المنتظرين أن وقت مِحنتهم وآلامهم قد ولّى، وأنّ عصر النعمة الإلهية ومجيء نقمة الرب على الأشرار قد حلّ، وأن بركات مسيّاويّة عظيمة ترافق مجيئه. إنّ المسيا هو عبدُ الله المتألِّم الذي يحل عليه روح الله القدوس بطريقة مُتميّزة عمن سواه، بل إن تأييد الروح القدس لإرساليته يظهر بشكل لا يُمكن أن تُخطئه عين البشر، لا سيّما اليهود الذين طال انتظارهم لمجيء المسيّا. إذًا، ما المُهمّة التي سيضطلع بها المسيا حال وجوده على أرضنا؟
(١) البشارة المنتظرَة: «الرب مسحني لأبشّر المساكين»: إن المساكين ليسوا هم الفقراء ماديّا بل هم أولئك التوّاقين إلى معرفة الله وإلى طاعته والعيش في القداسة. في أول عظة للمسيح خلال خدمته العلنيّة قال: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (متّى ٥: ٣). لقد عرف اليهود أن مسيا الله قادم، وأنه –حسب النبوّات- سيأتي من بني جنسِهم «يقيم لك الربّ إلهك نبيًا مثلي. له تسمعون» (التثنية ١٨: ١٥). كانت أحلامُ اليهود وانتظاراتُهم أن يأتي المسيح لكي يرد قلوبَ الشعب إلى الربّ الإله، فيتمكّن الشعب من اختبار صلاح الله، والنصرة على الأعداء الزمنيّين، لكن المسيح جاء ليُقيم ملكوتًا روحيًا إذ يقبل الشعب أن يحيا في حياة مقدسة تليق بهذا الإله القدوس الحاضر في وسط شعبه.
(٢) يقول يسوع إن الله (الآب) أرسله ليشفي مُنكسري القلوب: كان الشعب اليهودي في زمن المسيح يعاني من انكسارات وهزائم على جميع الأصعدة وفي كل المجالات؛ كانت أحذية الجنود الرومان الأجلاف تطأ أعناقَ اليهود. كان مجرّد وُجود الرومان في أورشليم؛ مدينة الله المقدسّة، يُضايق اليهود ويُزعجهم إذ أنهم كانوا يعتبرون دخولَ «الأمم الغُلف» إلى بلادهم تدنيسًا لهذه البلاد، فما بالكم بدخول الأمم إلى مدينة الملك العظيم وإلى الهيكل بيت عبادة إلههم. كان هذا الأمر خطيرًا بل مهولًا. طال هذا الانكسار السياسي كل أوجه الحياة الأخرى: الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة، كما تضرّر من هذه الهزيمة السياسيّة كل فئات المجتمع: الرجال والنساء، الشباب والشابات، بل حتى الأطفال. من المعروف عن المسيح إنه كان يشفي أجساد الناس من الأمراض والأدواء المختلفة، لكن ما لا يعرفه الجميع أن المسيح كان يشفي بالحب مُنكسري القلوب.
صديقي، ما أشقانا في هذه الحياة، لكن الرب يعرف كيف يشفي ضعفاتنا الجسديّة ويبرئ أمراضنا النفسيّة، لأنّ جُزءًا من إرساليته هو شفاء مُنكسري القلوب.
(٣) أما الجزء الأكثر روعة وإشراقًا في شخص مسيّا الله وعمله أنّه جاء ليُحرِّر البشر. لا يجب أن ننسى أن يهود ذلك الجيل ظنّوا أن المسيح سوف يحرِّر شعبه من الرومان المستعمرين، لكن مسيح الله (يسوع) قال إنّ الحريّة التي جاء بها لها مدلول أشمل وأعمق. إنه سيحرِّر البشر من الخطيّة، لأن «كلّ من يفعل الخطيّة هو عبد للخطيّة» (يوحنا ٨: ٣٤)، ولأن «ما انغلب منه أحد فهو له مستعبد» (٢بطرس ٢: ١٩). فالخطيّة أغلال شريرة يقيّد بها البشر أنفسَهم فيُستعبدون لها. لكن مسيح الله جاء «لينادي للمسبيّين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق». إنها سنة اليوبيل الحقيقيّة التي فيها يُنادى بالعتق في الأرض لجميع سُكانها (اللاويين ٢٥: ١٠).
(٤) ويضيف متّى البشير جملة «وللعُمى بالبصر» التي لا ترد في إشعياء ٦١. لعلّ متّى كان يقتبس من الترجمة السبعينيّة للعهد القديم. على أي حال نحن نعلم أن أحدًا لم يستطع رد البصر لأيّ أعمى في كل العصور (وفي الدنيا كلّها)، وهذا ما قاله الرجل الذي كان أعمى ثم خلق له المسيحُ عينيْن جديدتيْن: «مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى» (٩: ٣٢). لذا فالعلامة المميِّزة لمجيء عصر المسيا ليست عمل المعجزات (كإيليا وأليشع)، ولا حتى إقامة الأموات؛ فعظام أليشع تسبّبت في إقامة الميت، بل هي فتح أعين العميان (إشعياء ٣٥: ٥). لقد قال يسوع عن نفسه إنّه نور العالم (يوحنا ٨)، لكن هذا الادّعاء ثبت عمليًا حين رد يسوع البصر لعميان كثيرين، بل والأكثر من ذلك حين وهب البصيرة الروحيّة لمن كانوا قبلًا عميانًا عن طُرق الله ومحبته. ليتك تسمح للرب يسوع أن ينير بصيرتك اليوم وأن يُعطيك عيون مستنيرة!
(٥) لقد توقّف الرب يسوع في قراءته قبل «وبيوم انتقام لإلهنا». صحيح إنّ الأخبار السارّة بالنسبة للبعض هي أخبار سيئة بالنسبة للبعض الآخر، لأن إنقاذ المظلومين يقتضي بالضرورة أن يقتص الله من الأشرار، وأن يُعاقبهم. لذا فإن عمل الرحمة وعمل الدينونة هُما وجهان لعملة واحدة، تمامًا كما أنّ الإنجيل رائحة حياة لحياة ورائحة موت لموت (٢كورنثوس ٢: ١٦). لكن ربَّنا حينما قرأ الآية من سفر إشعياء توقّف عن القراءة عند نهاية العبارة «سنة الرب المقبولة». إنه لم يقرأ العبارة التي تلي، لأنَّه لم يأتِ ليدين العالم بل ليَخلُص به العالم (يوحنا ٣: ١٧). لم يأتِ لينتقم من الأشرار، بل ليدعوهم للحياة فإن قبلوا الحياة نجوا وإلا «ففيما بعد يقطعها» (لوقا ١٣: ٩). سيأتي يوم وينتهي زمنُ النعمة وسيأتي يومُ دينونة عادلة، وهذا أمر واضح ومؤكَّد طبقًا لكلمة الله كلِّها.
صديقي: افتح قلبك للإيمان بالمسيّا، «ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا» (يوحنا ٢٠: ٢٧ ).