ترجمة أمجد أنور
غُفران الخَطايا
الغفران هو إجابة الله على سؤال الخطية، والغفران يحل مشكلة الذنب ويشفي قلب الخاطئ الجريح، ويسترد شركته مع الآب ويذيب كيانه بمحبة الفادي، ويفتح أمامه نافذة جديدة من الأمل والفرح. الغفران هو الشرط الذي ينبغي استيفاؤه أولًا قبل نوال كل بركات الحياة المسيحية ومسؤولياتها.
يمكن أن ننال غفرانًا لخطايانا رغم كثرتها وخطورتها. هذا هو الفجر المجيد الذي يعقب ظلام اليأس، الهدوء الذي يلي العاصفة، السلام بعد الصراع «لَا أُوقِعُ غَضَبِي بِكُمْ لِأَنِّي رَؤُوفٌ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. لَا أَحْقِدُ إِلَى ٱلْأَبَد» (إرميا 3: 12). قال الرب عن المرأة الخاطئة التي قبّلت قدميْه ومسحته بزيت: «قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَة» (لوقا 7: 47).
أ. بدائل الغُفران
1. تجاهل الخطية. لعله من المفترض أنه بإمكان الله التعامل مع الخطية بتجاهلها، ولكن هذا سيعد إنكارًا لكلمته أو تجاهلًا لقانونه المقدّس. لن يغمض القدير عينيْه عن ظلم الإنسان إلى الأبد، ولن يعقد مع الخاطئ اتفاقًا آثمًا. الخطية تستحق العقاب وستنال الموت، ولا مهرب من ذلك. إن إلهًا يتجاهل الخطية لا يمكن أن يكون إله الكتاب المقدس.
2. التهاون مع الخطية. يمكن الافتراض أيضًا أن الله يستطيع حل مشكلة الخطية بالتفاوض مع الخاطئ. فربما يمكنه أن يقبل ثمنًا للخطية أو تقدمة تتمثل في تميّز الشخصية أو القيام ببعض الأعمال الحسنة، وعليه يمكن أن يوازن الله الخير مع الشر وعلى هذا الأساس يلغي عقوبة الخطية. ولكن هذا لا يمكن أن يحدث قط، فالدخول في مثل هذا الاتفاق مع مخلوقات تمردت عليه يعني إنكاره لقداسته وبره.
لا بد من دفع ثمن الخطية، وصون قدسية الناموس، وإرضاء بر الله. وليس من سبيل لتحقيق هذه المطالب سوى بغفران الخطايا.
ب. ضرورة الغُفران
1. تجاه الإنسان. ما لم تُحل مشكلة خطية الإنسان فسيظل في الخطية وفي عداوة مع الله وفي انتظار مُحقَّق لقضاء الأبدية في الشقاء. ينبغي أن تكون هذه الحقيقة بمثابة تحدٍ لكل كارز ومُعلّم وخادم مسيحي. لا جدوى من أن يُقدّم المرء لسامعيه فضائل الحياة والخدمة المسيحية وبركاتها ما لم يتصالحوا أولًا مع الله، فالسجين الذي ينتظر تنفيذ حُكم الإعدام لا يكترث كثيرًا بمنظر غروب الشمس ولكنه في مسيس الاحتياج أن يعرف السبيل إلى الحرية. وإذا ابتغى البشر بصفة عامة الحرية، فلا مناص عن غفران الخطايا لبلوغ هذه الحرية.
2. تجاه الله. كما أن الغفران ضروري لنوال الإنسان حريته من عقاب الخطية، فهو أيضًا ضروري من منظور الله. إن قلب أبينا السماوي الممتلئ بالمحبة يتتبع إثر الخاطئ والضال، ولكنه لا يستطيع أن يسترد الخاطئ بدون غفران، لأن أي استرداد للشركة يتعارض مع طبيعته وقداسته وعدله هو أمر مستحيل. ومن ثم، فإذا أراد الله للبشر أن يدخلوا السماء، فغفران خطاياهم أمر ضروري.
ج. طَبيعة الغُفران
يرتكز معنى «الصفح» أو «الغفران» على «التسليم» أو «التخلي عن» الضغينة تجاه المأثم أو الرغبة في المجازاة. وغفران الخطايا هو قلب بشارة الإنجيل. كانت إرسالية المسيح تحقيق غفران خطايا الإنسان. وقف الرسل أمام جماعة تعادي رسالة الإنجيل ولكنهم أعلنوا عن المسيح: «هَذَا رَفَّعَهُ ٱللهُ بِيَمِينِهِ رَئِيسًا وَمُخَلِّصًا، لِيُعْطِيَ إِسْرَائِيلَ ٱلتَّوْبَةَ وَغُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 5: 31). أعلن الرسول بولس في أنطاكية بيسيدية «أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 13: 38).
والغفران امتياز إلهي، وهو عمل يقوم به الله القدير. الله «أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم» (1يوحنا 1: 9). عندما كان ابن الله على الأرض، شفى كسيحًا مسكينًا وربط علانية معجزة الشفاء بقدرته الإلهية على غفران الخطايا، إذ قال: «وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِٱبْنِ ٱلْإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى ٱلْأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ ٱلْخَطَايَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: قُمِ ٱحْمِلْ فِرَاشَكَ وَٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» (متى 9: 6).
د. مَدى غُفران الله
عندما يغفر الله للخاطئ يكون الغفران تامًا، أي أن الغفران يحل مشكلة الخطية. توضِّح الكلمة المقدسة هذه الحقيقة بطُرق عدّة:
1. كل الخطايا يمكن أن تُغفر حتى أشرها باستثناء الخطية الوحيدة التي لا تُغفر (سنتكلّم هن هذه الخطية لاحقًا). ليس من جريمة ارتكبت قط أبشع من صلب ابن الله، ومع ذلك صلّى الرب يسوع لأجل قاتليه: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُون» (لوقا 23: 34).
2. لا حدود لعدد المرات التي يغفرها أبونا السماوي. سأل بطرس الرب ما إذا كان ينبغي أن يغفر لأخيه سبع مرات: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لَا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّات» (متى 18: 22). لقد كشف رد المخلص عن قلب الله المحب.
3. لا حدود للمسافة التي يفصل بها الله بيننا وبين خطايانا «كَبُعْدِ ٱلْمَشْرِقِ مِنَ ٱلْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا» (مزمور 103: 12). هذا تمثيل إيضاحي يعرفنا كيف أنه حينما يغفر الله الخطية، فإنه يطرحها تمامًا من محضره.
4. الله يغفر خطايانا بأكملها. فالله لا يفصل بين أفعال بشعة معينة ويركز غفرانه عليها، وإنما يغفر «جَمِيعِ ٱلْخَطَايَا» (كولوسي 2: 13)، كل الخطايا بكل ألوانها، الأسود والأبيض والرمادي. صارت صحيفة حياتنا بيضاء.
5. خطايانا صارت في بحر النسيان. عندما يغفر الله الخطايا، فإنه لا يمسحها فقط من كتابه، وإنما من سِجل ذاكرته: «قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ. اِرْجِعْ إِلَيَّ لِأَنِّي فَدَيْتُكَ» (إشعياء44: 22). وكما يحجب السحاب أشعة الشمس عنا، وكما تُمنع الطيور أن تغرد، وتُمنع الورود من التفتح، فإن الخطايا مثل السحب إذ تجعل الحياة مظلمة وكئيبة. لكن الله يمسحها! ليس من سُحب مسحتها السماء يمكن أن تتكون مرة أخرى بالطريقة نفسها. وعليه، فإن خطايانا عندما يغفرها الله، فإنها تصبح مَنسية. يُقدّم لنا الوعد الكتابي مضمون العهد الجديد: «لِأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلَا أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد» (إرميا 31: 34).
ه. منطق الغُفران
1. رحمة الله تسمح به. يتوقّف جوهر غفران الخاطئ على طبيعة الله. أبونا السماوي إله قدوس وبار، وهو قادر أن ينفّذ مشيئته ويجري عدله. ولكنه أيضًا إله رحيم، وهذه الصفة تجعله يبحث عن سبيل لتحقيق ما يتماشى مع شخصه ومقاصده وفي الوقت نفسه يمنح الخاطئ سبيلًا لنوال الغفران «لِلرَّبِّ إِلَهِنَا ٱلْمَرَاحِمُ وَٱلْمَغْفِرَةُ، لِأَنَّنَا تَمَرَّدْنَا عَلَيْه» (دانيآل 9: 9).
2. ذبيحة المسيح هي أساس الغفران. يكمن السبيل إلى نوال الغفران في الذبيحة: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لَا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عبرانيين 9: 22). كان لا بد من تقديم كفارة للخطية. وفي حكمة الله غير المحدودة كان ابن الله السرمدي هو الذبيحة التي وقع عليها الاختيار. يعلن الرسول بولس بما لا يدع مجالًا للشك: «فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْإِخْوَةُ، أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 13: 38). إن نوال الخاطئ الغفران لا يقوم على شخص المسيح أو تعليمه، على سبيل المثال، وإنما على دمه المسفوك «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7)، لأنه «وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّة» (1يوحنا 1: 7).
و. شُروط الغُفران
لقد أنجز الله جانبه من الغفران إذ ذُبح الحمل والذبيحة صارت مقبولة. ولكن ترى ما هي مسؤولية الإنسان في هذه الصفقة؟ مجموعتان من البشر تحتاجان إلى الغفران:
1. أولئك الذين يحتاجون إلى الغفران حتى يخلصوا. فهم الذين لم ينالوا الخلاص، وإذا كان لهم أن يجدوا ترحيبًا للانضمام إلى عائلة الله، فعليهم أن يقبلوا ذبيحة المسيح الكفارية عن خطاياهم. بالإيمان، عليهم أن يعترفوا بخطيتهم وأن يقبلوا ابن الله مُخلصًا لحياتهم مما يفتح لهم الباب لنوال الخلاص. هذا هو السبيل الأساسي لنوال الغفران والخلاص.
2. أولئك الذين يحتاجون إلى الغفران كي تعود لهم شركة. هؤلاء أناس نالوا الفداء وغفران الخطايا ولكنهم يحتاجون إلى التطهر. رغم أنهم نالوا الخلاص الأبدي فإنهم عبر مسيرة الحياة اتسخوا بأمور يمكن أن تعوق شركتهم مع الله. الخطايا اليومية تتطلّب توبة واعترافًا وغفرانًا يوميًا. الخطايا غير المعترف بها تُعد نكبة على فعالية المؤمن. أخي المؤمن، أدعوك أن تكون أمينًا في هذا الأمر، أدعوك أن تتوب، وتعترف بخطاياك، وتلتمس دم المسيح، وتواظب على أن تكون شركتك مع الله شفافة وخالية من أي عوائق. «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم» (1يوحنا 1: 9). «فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي ٱلَّذِينَ دُعِيَ ٱسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ ٱلرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُم» (2أخبار 7: 14).
ز. الخطيّة التي لا تُغتفر
1. الخطية التي لا تغتفر حقيقة واقعة. إن نعمة غفران الله غير محدودة، ولكننا نقرأ عن «خَطِيَّةٌ لِلْمَوْت» (1يوحنا 5: 16). كما نقرأ: «لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيفُ عَلَى ٱلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاس» (متى 12: 31). النفس غير المغفور لها «فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى ٱلْأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً» (مرقس 3: 29). التباين مخيف: إما أن تكون خطايا الإنسان مغفورة، أو أنه يكون مرفوضًا من الله وبالتالي منفصلًا عنه.
2. طَبيعة الخطيّة التي لا تُغتفر
أ. التعريف السلبي. إنها ليس تغيرًا في الحالة المزاجية للشخص، أو نوعًا من الإثم الذي يمكن أن يرتكبه الخاطئ عن دون قصد. إذا كانت روح الإنسان تئن في داخله لئلا يكون قد ارتكب الخطية التي لا تُغتفر، فإن شعور المعاناة داخله يُعد دليلًا على أنه لم يرتكبها. عندما يرتكب المرء الخطية التي لا تُغتفر فإنه يفعل ذلك دون أن يؤاخذه ضميره.
ب. التعريف الإيجابي. يتكلّم ربنا يسوع المسيح مع البشر عن خطية لا يمكن أن تُغتفر، والسياق الذي يستعين به في وصف هذه الخطية (متى 12: 31، 32؛ مرقس 3: 29، 30) يبين أن التكلّم بتجاديف أو التجديف «على الروح القدس» يُشير إلى رفض شهادة الروح القدس على المسيح رفضًا قاطعًا، جازمًا، متعمدًا، مستمرًا، خبيثًا. وهذا يعني بإيجاز التنصل التام والرفض الدائم لرسالة إنجيل المسيح. تُرى هل من مبرِّرات ممكنة لغفران مثل هذا الرفض الموجَّه لشهادة الله؟
ح. مَسؤولية الخَاطئ الذي ينال الغُفران
حريّ بالمؤمن مادامت فيه نسمة حياة أن يفرح ويسبِّح الله على غفرانه الذي لا ينضب. حريّ بالمؤمن أن يقدِّم للقدير جل العرفان لاسمه القدوس ومراحمه، وجدير به أيضًا أن يترجم امتنانه إلى غفرانه الممنوح له رأسيًا إلى غفران أفقيًا «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ، مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللهُ أَيْضًا فِي ٱلْمَسِيح» (أفسس 4: 32). الله غفر لي، فحريّ بي أن أغفر لأخي. الله يُسر حينما يعيش أولاده روح الغفران. ولكنه سيجازي في الدينونة أولئك الذين يرفضون أن يغفروا، كما هو مكتوب: «فَهَكَذَا أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَخِيهِ زَلَّاتِه» (متى 18: 35).