الكتاب المقدس والعقيدة المسيحية
ما نؤمن به يقرر أسلوب حياتنا. فالمسيحي لا يستطيع القول: "ليس لدى وقت لدرس العقيدة". فالعقيدة للمسيحي ليست إضافة اختيارية، لأن ما نؤمن به يؤثر في مجرى حياتنا بكامله
نحن كمؤمنين بالمسيح ، أتباع المسيح. ونرغب في أن نفعل ما أوصانا. قال: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي". وهذا يتضمن اكتشاف ما علمه يسوع فعلاً، وما علمه الرسل. وكيف فسر الرسل مجيئه وموته وقيامته وكيف يفيد هذا اتباعه وكنيسته
. إن كنا من أتباع المسيح فيجب أن تكون نظرته إلي الكتاب المقدس نظرتنا. فيصبح الكتاب المقدس مرجعنا، ومصدر إلهامنا. إنه مصدر لا لحياتنا التعبدية فحسب، بل لمعتقداتنا الأساسية التي تصوغ شخصياتنا وحياتنا. هذه المعتقدات تؤثر في مجتمعنا، وفي مجموعة قيمنا بكاملها. فمن الضروري بناء مجموعة متراصة من العقائد تتفق بأمانة مع ما علمه يسوع ومع مضمون الكتاب المقدس بكامله
مصدر الإيمان المسيحي
. الكتاب المقدس سجل لكلام الله خاطب به مجموعات متنوعة من الناس في ظروفهم الخاصة على مدي قرون. إنه سجل تاريخي لا جدول منظم للعقيدة. علي هذا الأساس إن تعليم الكتاب المقدس حيال بعض الموضوعات الخاصة مثل الله، والإنسان والشر، والكنيسة يتم بناؤه بجميع ما يتعلق بأي من هذه الموضوعات في مختلف أجزاء الكتاب المقدس حتى نحصل علي الصورة بكاملها. فنحن نبحث عن خلاصة إعلان معطى "بأنواع كثيرة وأساليب مختلفة" علي حد تعبير كاتب الرسالة إلى العبرانيين
من العهد القديم إلي الجديد
. السؤال العملي المباشر يدور حول علاقة أجزاء الكتاب المقدس المختلفة بعضها ببعض، فالعهد القديم غير كامل بلا الجديد. كان هناك تدرج في الفهم وفي الإعلان الذي أعطاه الله
. هذا يعني أن الكلمة الأخيرة ينبغي أن تكون وبكل جلاء للعهد الجديد. ما جاء في العهد القديم ينبغي ألا يؤخذ به على حدة: يجب أن ينظر إليه في إطار إعلان الله الشامل
. المشكلة ذاتها يمكن أن تنشأ في العهد الجديد أيضاً. فإذا حاولنا بناء عقيدة عن الحياة المسيحية مما ورد في البشائر فقط، سنلاحظ أن الموضوع الأساسي هناك هو علاقة التلاميذ بمعلمهم. غير أنه سيفوتنا بقية تعليم العهد الجديد: التعليم الخاص بعلاقة المؤمنين بالمخلص المصلوب والمقام من بين الأموات
وبالطريقة ذاتها يمكن التركيز كلياً علي تعليم الرسائل عن الاتحاد الروحي بالمسيح ونسيان ما جاء في البشائر من وصايا عملية جداً أعطاها يسوع تلاميذه خلال حياته على الأرض. إذاً يجب أن نحافظ علي التوازن في التعليم فنستخلصه من الكتاب المقدس بأجزائه المختلفة، علي أن يكون العهد الجديد الجزء المهيمن
النص وقرينة الكلام
. كذلك علينا ألا نأخذ آيات من الكتاب المقدس ونفسرها كما نشاء بمعزل عن القرائن التي وردت فيها
. ليس الكتاب المقدس مجموعة من الحقائق غير المرتبطة بزمن يمكن ضمها للتو معاً بلا اعتبار للوضع الأصلي التي جاءت فيه والقصد منها. لا نستطيع بسهولة كهذه أن ننتقي آيات متفرقة من كل أجزاء الكتاب المقدس ونضمها معاً وننشئ منها عقيدة. فمعنى عبارة ما مرتبط جزئياً بالقرينة التي ترد فيها. ولا تفهم آيات الكتاب المقدس إلا في ضوء المقاطع التي أخذت منها بكاملها، عندما نعتبر ما تقوله حيال عقيدة معينة
الكلمات وأطر التفكير
. عندما كتب يوحنا إلى الناس في عصره :"الكلمة صار جسداً"، كان يخاطبهم مستعملاً كلمتين ("كلمة" و "جسداً") لهما مدلول شائع. لقد عبر عن المعنى بطريقة يفهمها قارئو كلامه
. لكن من الممكن أن تعني هاتان الكلمتان شيئاً مختلفاً في لغتنا المعاصرة. لذلك لا نستطيع أن نبني عقائدنا، وإن نصنف تعاليمنا اللاهوتية، بتكرار العبارات الكتابية لفظياً، دونما اعتبار لمعنى الكلمتين في زمن استعمالهما وفي زمننا الحاضر. إن علينا مسؤولية إضافية وهي أن نصوغ من جديد العبارتين بحيث يتضح معناهما الأصلي للإنسان المعاصر
. وهكذا إذا ما عادت بعض كلمات الكتاب المقدس تفيد أي معنى اليوم، علينا إيجاد كلمات جديدة تنقل المعنى من دون أن نفقد شيئاً من مضمونه
مهنة للخبير؟
قد يجعل هذا الأمر استعمال الكتاب المقدس كمصدر للعقيدة المسيحية. شيئاً يبدو في غاية الصعوبة. ولكن مع وعينا ذلك فإنه ينبغي ألا نبالغ في هذه المسألة
. أولاً: كتب الكتاب المقدس ليفهمه الناس العاديين. هذا ما عناه المصلحون "بوضوح" الكتب المقدسة. وهذا المبدأ تقبله اليوم الكنائس جميعاً. الكتاب المقدس واضح كفاية بحيث لا يتطلب الأمر توسط الإكليريكيين ليشرحوا أسراره للعلمانيين. كما لسنا بحاجة إلى جيل جديد من العلماء يتولى مهمة توصيل رسالة الكتاب المقدس الأساسية إلى الإنسان العادي، عوضاَ عن الإكليريكيين
. ثانياً: ثمة مبادئ حكيمة لتفسير الكتاب المقدس تراكمت عبر الأجيال. لذا فمن الجهل وقصر النظر الاكتفاء بأبحاثنا الخاصة وإهمال النتائج التي توصل إليها كثيرون من المسيحيين الذين درسوا الكتاب المقدس. ومن الأفضل أن نفحص ما توصلنا إليه بمقارنته بالعقائد المتفق عليها، أو أن نأخذ العقائد المتفق عليها ونقبلها عقائد لنا إذ نرى بأنفسنا كيف يشهد لصحتها الكتاب المقدس
عقائد الكتاب المقدس والفكر المعاصر
. بعد وضع ما يعلمه الكتاب المقدس في قالب منظم متماسك، علينا التقدم خطوة أخرى. فالكتاب المقدس يعرض كلمة الله كما جاءت لأناس في فترات محددة من التاريخ وفي إطار مشاكلهم وحاجاتهم، ولم تشمل كل نواحي البحث البشري والمعرفة الإنسانية، فمن غير المعقول أن نتوقع منها ذلك
. من ثم علينا ربط ما يقوله الكتاب المقدس ببقية العلوم الإنسانية، وربط بقية العلوم الإنسانية بما يقوله الكتاب المقدس
المعرفة العلمية
. على سبيل المثال، يتحدث الكتاب المقدس عن الكيفية التي خلق بها الله الكون، غير أن الكتاب المقدس ليس كتاب علم يعتمد. فما ذكره عن خلق العالم يجب ربطه باكتشافات العلم. كل حق هو حق من الله. يتكلم الله "بإعلان خاص" في الكتاب المقدس، ويتكلم أيضاً "بإعلان عام" بواسطة البحث العلمي والاكتشافات. وإذا حدث أي تضارب ملحوظ بينهما فالكلمة الفصل يجب أن تكون للكتاب المقدس، انسجاماً مع ما علمه يسوع وما يدعيه الكتاب المقدس لنفسه. لكن الحقيقة التي يعلنها الله في المجالين لا يمكن أن تتناقض، لذا علينا البحث عن نور إضافي إذا كان ثمة مشكلة
. الإنسان مخلوق ساقط، أعمت عقله الخطيئة. فقد يخطئ العالم في نظرته ويجانب الصواب أو قد يؤسس رأيه علي أحكام مسبقة غير صحيحة. ونحن أيضاً مخلوقات ساقطة عرضة للخطأ، لذلك سنحاول تقويم كل عبارة بضوء كلمة الله. ونفعل كل مستطاع لسماع كلمة الله وفهمها بوضوح وصواب. من خلال هذا السبيل فقط نأمل في الجمع بين معرفة الله والكون المعلنة في الكتاب المقدس، وبين تلك المعلنة في "الإعلان العام" والوصول إلى صورة موحدة
الإيمان والحياة
. يمكننا أن نعرف الله بالقدر الذي يعلن هو عن نفسه. ولا سبيل إلي ذلك بغير وسيلة. ولا نعرف يسوع المسيح معرفة حقة إلا من خلال ما نقرأ عنه في الكتاب المقدس. كذلك لا نعرف شيئاً عن فرح الحياة المسيحية، أو حياة الشركة في الكنيسة، بمعزل عن الكتاب المقدس المعطى لنا من الله
. ينبغي علي كل مسيحي، إذاً، أن يلم إلماماً جيداً بالموضوعات الرئيسية التي يحويها الكتاب المقدس. فبهذه الوسيلة فقط يمكنه من وضع أساس مسيحي صالح لسلوكه. فمن نؤمن به لا بد أن يظهر في سلوكنا اليومي.