على طول التاريخ البشريّ كان هناك ملوكٌ قُساة، وقادةٌ عسكريّون دمويّون بنوا أمجادَهم الدنيويّة على القتل وسفك الدماء. ملأت شهرتُهم الدنيا بسبب كثرة المصائب والفظائع التي ارتكبوها في حق الضعفاء، وعلت مكانتُهم بسبب كثرة الجماجم التي رفعوا عليها عُروشَهم. من هؤلاء القادة على سبيل المثال لا الحصر: الاسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، والسلاطين العثمانيين، ونابليون بونابرت، وهتلر، وموسوليني، وستالين، وعيدي أمين، وغيرهم! كان هؤلاء القادة يروْن في التوسُّع والغزو والحرب سبيلًا للمجد الدنيويّ، وطريقًا للشهرة والنفوذ والسيادة. ولطالما سعى البشرُ جميعًا إلى الشهرة؛ فمنهم من سلك طريق الحروب والدم والموت، ومنهم من سلك دروبًا أخرى خيّرة. اليوم نلتقي مع المسيح الذي علَّم تلاميذَه الحواريّين سبيلاً إلى العظمة الحقيقيّة، كما رآها هو وكما عاشها هو.
يكتب البشير مرقس قائلا:
«وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ: «يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» فَقَالاَ لَهُ: «أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُم».
وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقس ١٠: ٣٥- ٤٥).
ليست هذه هي المرّة الأولى التي يتنازع فيها تلاميذ المسيح على المكانة والامتيازات، ففي بشارة مرقس الفصل التاسع، وقبل وقت قصير من هذا الحديث، سأل المسيح تلاميذه قائلاً: «بماذا كنتم تتكالمون فيما بينكم في الطريق؟ فسكتوا لأنهم تحاجوا في الطريق بعضهم مع بعض فيمن هو أعظم». كان المسيح قد انتهز الفرصة ليعلِّمهم أنّ العظمة الحقيقيّة ليست في السيادة، بل في التواضع مُعطيًا لهم نموذجًا مُجسَّمًا للفكرة، حين أخذ ولدًا وأقامه في وسطهم وقال لهم: «من قبل واحدًا من الأولاد مثل هذا باسمي، يقبلني».
لكن من المؤسف أن التلاميذ لم يتعلَّموا الدرس، فلقد كانوا على استعداد للجدل والتناحُر حول من منهم يكون الأعظم، لكن أحدًا منهم لم يكن مُستعدًا لقبول القيام بدور الخادم أو العبد. ولعلّنا لا ننسى أنّ المسيح هو الوحيد الذي «أخذ منشفة واتزر بها وصب ماءً في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ!» (يوحنا ١٣: ١-١١).
هنا نرى يعقوب ويوحنا ابنيّ زبدي يطلبان أن يجلس أحدُهما عن يمين يسوع والآخر عن يساره في المجد. بل لعلّهما كانا يتوقعّان أن يُوافق المسيحُ فورًا على طلبتهما. لقد حمل كلامهم صيغة اليقين أن المسيح لا بُد أن يُوافق على طلبهما، لا سيّما بعد أن انضمت لهما والدتُهما لتتوسّط لهما. لقد جاءا قائلين: «يا معلِّم نريد أن تقعل لنا كل ما طلبنا» (آية ٣٥).
قَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». لقد أثبتت الأيام صدقَ ما قالاه للمسيح في ذلك اليوم؛ فلقد استشهد يعقوب قتلًا بالسيف عام ٤٤م على يد هيرودس الملك؛ أحد أكبر الطغاة في التاريخ الكتابي، ونُفيّ يوحنا الحبيب وهو شيخ طاعن في السن إلى جزيرةٍ صخريّة تُدعى بطمس، حيث قضى هناك آخرَ سنوات عمره، ومن هناك كتب لنا سفر الرؤيا.
فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ» (٣٩-٤٠). في العهد القديم، كثيرًا ما ترمز «الكأس» إلى العذاب، إذ يقول المرنّم: «لأنّ في يد الرب كأسًا وخمرها مختمرة. ملآنة شرابًا ممزوجًا وهو يسكب منها، لكن عكرها يمصّه يشربه كل أشرار الأرض» (مزمور ٧٥: ٨). ويقول النبيُّ في سفر إشعياء: «انهضي انهضي، قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه» (إشعياء ٥١: ١٧). وهنا في بشارة مرقس ترد صُورة الكأس ارتباطًا بـ «المعموديّة» التي تدل على العذابات والآلام التي يُقاسيها الإنسان، عندما يُعاني من المحنة عامةً ومن الاستشهاد على وجه الخُصوص.
لماذا قال المسيح لهما: «ليس لي أن أعطيه إلا للذين أُعد لهم»؟ وصيغة الفعل المبني للمجهول هنا تزداد وضوحًا في بشارة متّى، إذ يرد القول بأكثر تحديد: «ليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدَّ لهم من أبي»؟ ما معنى ذلك؟ هل هناك فارق بين المسيح وبين الآب السماوي؟ بالطبع نؤمن أن المسيح والآب واحد: نور من نور .. إله حقّ من إله حقّ .. لكن المسيح هنا –وكعادته- يُرجع المجد للآب. أليس هو القائل: «أنا مجّدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يوحنا ١٧: ٤). إن الابن يُمجِّد الآب، وسرور الآب أيضًا أن يُمجِّد الابن بالمُقابل، فلقد جاءه صوتٌ من السماء: «مجدّت وأمجِّد أيضًا» (يوحنا ١٢: ٢٨).
كيف كان رد الفعل لدى التلاميذ العشرة على هذه الطلبة؟ يقول البشير إنهم بدأوا يغتاظون أو يستاؤون من يعقوب ويوحنّا. يبدو أن التلاميذ قد شعروا بأنّ الأخويْن ينظران إلى نفسيهما على أنّهما الأفضل بين التلاميذ. ربّما تداعت إلى أذهان التلاميذ ذكرياتُ الماضي القريب حين كانا الأخوان يديران أسطولًا من سفن الصيد المملوكة لأبيهما، وكانت عائلتُهم ترتبطُ بعلاقة صداقة مع رئيس الكهنة بما له من جاه ونفوذ. لذا، فلا بد أنّهما ينظران إلى نفسيهما على أنهما الأفضل بين التلاميذ، وبالتالي فلماذا لا يطلبان المكانة الأفضل حول المسيح، متى جاء في ملكوته؟
هنا استثمر يسوع الموقف ليُعلِّم تلاميذه درسًا في غاية الأهمية والخطورة. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا». ليست غاية المسيح من هذا الكلام أن يذمَّ السلطة السياسيّة في حد ذاتها، بل أن يبيّن أنها ليست مثالًا لتلاميذه. إنّ يسوع يُقدِّم لتلاميذه هُنا نموذجًا مغايرًا من القيادة، هو نموذج القيادة الخادمة، التي لا تشبه –بأي حال من الأحوال- النموذجَ البشري المُنتشر بين الرؤساء والعظماء من الناس. إنّ المسيح يرسُم طريقًا جديدًا للعظمة هو نموذج القيادة التي تعتمد التضحية لا التسلُّط، وتتبع الإيثار لا الأثرة، وتُوصي بوضع الذات لا انتفاخ الذات!
ولعلّ التلاميذ كانوا يُصارعون مع فكرة المسيّا العسكريّ .. المسيا البطل الحربيّ الذي سينصُر اليهود على الرومان بعد طول انتظار. لعلّهم كانوا يتوقون أيضًا إلى ذلك اليوم الذي فيه تتحقّق نبوات العهد القديم حينما يملك مسيّا الله من البحر إلى البحر، فيرُدَّ أمجاد مملكة داود، ويجعل من اليهود أمّة عظيمة مزدهرة تسمو فوق أمم الأرض الأخرى. اليهود الذين كانوا أذلاء في زمن المسيح إذ سحقت أحذية الجنود الرومان الغليظة رقابهم. بدلًا من ذلك، ذكِّر المسيحُ تلاميذه مرة ثانية بأنه هو شخصيّا: «لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (آية ٤٥). إنّه ابن الإنسان الذي جاء ليفدي –حرفيًّا- جماعة البشر إذ هو العبد المتألِّم الذي يموت من أجل خطايا الشعب. إنه يموت «من أجل» البشر ويضع حياته كـ «بديلٍ» عنهم من أجل افتدائهم.
إنّ كلمة «فدية» تعني حرفيًّا إطلاق عبدٍ أو تحرير رقبة (أي تحرير أسير)، والمسيح بموته على الصليب قد دفع ثمنَ حريتِنا وإطلاقنا. في هذا صدقت النبوة القديمة: «مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء ٥٣: ٥-٦).
هل لاحظت أن المسيح لم يُجرَح لأجل معاصيه هو بل لأجل «معاصينا» نحن؟ هل لاحظت أنه سُحق لأجل «آثامنا» نحن لا لأجل إثمه هو؟ إنّ الربّ وضع عليه إثم جميعنا. لك الشكر يا ربّ. لك الشكر وحدك.
عزيزي القارئ،
إنّ المسيح مات من أجلي ومن أجلك .. إنه لم يمُت كفاعل شر أو كمُجرم أو كقاطع طريق. حاشا! بل مات نِيابة عني وعنك. ولأنّه وضع نفسه بالتمام استحق أن يُكرَّم ويُمجَّد كأكثر ما يكون التمجيد، لكي تسجد للمسيح «كُل ركبة، ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان بأن يسوع ربّ لمجد الله الآب» (فيلبي ٢: ١١). لقد أخلى نفسه بالتمام، فأقامه الآب فوق كل قُوّة ورياسة واسم وسيادة .. إنّه الكائن على الكل إلهًا مباركًا .. له المجد .. الآن وكلَّ أوان، وإلى دهر الدهور .. آمين