رؤية المَسِيح في العهد القديم

أبنير تشو Abner Chou منذ خمسمائة عام، نادى المصلِحون بشعار «سولوس خريستوس»، أي المَسِيح وحده. كان هذا الشعار هو نبض عصر الإصلاح. لكن، وبعد مرور خمسمائة عام، ما زال شعار «المَسِيح وحده»يقف
المزيد

لماذا نقول عن المسيح إنه ابن الإنسان وابن الله؟

بقلم تول تويس ما دلالة جمع هذيْن اللقبيْن معًا في مشهد محاكمة المسيح؟ هل كان الغرض هو الإشارة إلى وجود علاقة مُعيّنة بين ابن الإنسان وابن الله؟ ردًا على هذا، نلاحظ
المزيد

الكتاب المقدس في بيئته

بيئة الإنسان الطبيعية في معظمها هي من صنع يديه ، هذه الحقيقة وضعها شيشرون في فم بالبوس الذي قال في خطابه : " نحن البشر نتمتع بمر السهول والجبال .
المزيد

مَصير الإنسَان النّهائي

للشهادة المسيحية الأمينة استجابتان: فالبعض يقبلون المسيح ويخلُصون، وآخرون يرفضونه ويضيعون: «فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱلله» (1كورنثوس 1: 18). قد تكون هذه الكلمات
المزيد

أساسيات الحياة المسيحية - الدرس الرابع

قوة الصلاة ترجمة أشرف بشاي أبناء وورثة في عائلة هي الأكثر ثراء في الكون كله «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِه»(يوحنا ١: ١٢)، «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ
المزيد

الطلبة التي لا تُرفض

حكى لي أحد أقرب أصدقائي عن مُعاناته الفكريّة والنفسيّة التي اجتاز بها يومَ أن اكتشف، هو وأسرتُه، أنَّ والدته، التي ما زالت في أوائل الخمسينيّات من العمر، تُعاني من مرض السرطان. ولما اكتشفوا هذه المصيبة كان المرض قد تغلغل بالفعل في جسد والدته النحيل، حتى وصل إلى مناطقَ كثيرة منه. كان المُصابُ جللًا والأمرُ خطيرًا، إذ سرعان ما ترك المرضُ اللعين آثارَه الكئيبة على جسد الأم، وامتدّت المُعاناة لتُصبح صراعًا مع أمر تدبير الأموال الباهظة التي تُطلب منهم لتأمين العلاج والمستشفى وأجر الطبيب. ومع المعاناة الجسديّة والماديّة كانت تتصاعد وتيرة المُعاناة الروحيّة ونطقت الألسنةُ أخيرًا بما اكتنزته القلوب: «لماذا يا رب؟ ولماذا في هذا السن المبكِّر للأم الرائعة؟ ولماذا نحن بالذات وهناك من الأبناء من لم يشب عن الطوق؟ لماذا ولماذا ولماذا ...». أسئلة كثيرة حائرة يتردّد صداها في الأجواء الحزينة بلا جدوى! كانت إحدى الأمنيات المستحيلة التي عبَّر عنها أفراد الأسرة مرارًا وتكرارًا: «آه يا ربّ، كم كنتُ أتمنّى لو سألتني قبل أن تسمح بالتجربة، لو خيّرتني لاخترتُ أن أحمل أنا المرض في جسدي بدل أمي». هذا النوع من الحب والوفاء بين أفراد الأسرة هو ما يجعل المرض أكثر قسوة على قسوته! وأشدَّ ألمًا من الآمه!

في هذا المقال أتناول معك أيها القارئ العزيز حادثة شفاء الرب يسوع للصبيّ المصروع. تلك الحادثة التي كتبها البشير متّى في الفصل ١٧ من بشارته:

«وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِيًا لَهُ وَقَائِلًا: «يَا سَيِّدُ، ارْحَمِ ابْني فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيدًا، وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي النَّارِ وَكَثِيرًا فِي الْمَاءِ. وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ههُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (متّى ١٧: ١٤- ٢١).

هناك أربعة أشياء مُهمّة يُوردها لنا البشيرُ متّى في هذه الحادثة:

(١) الحالة المزرية: كان الغلام الذي نال الشفاء من المسيح مصابًا بالصرع، قال البشير عنه إنه كان «يُصرَّع ويتألَّم كثيرًا» والصرع، كما هو معروف لنا اليوم، هو المرض الذي يقف وراء التشنّج الذي يحدث للجسم بسبب خلل يصيب الإشارات الكهربائيّة داخل دماغ الإنسان. ومرض الصرع غالبًا ما يظهر في سن الطفولة أو الشيخوخة، لكن هذا لا يلغي إمكانية ظهورِه في أيّ مرحلة عمرية أُخرى. ويحدث غالبًا الخلط ما بين الصرع والتشنج، فالتشنج هو أحد أعراض مرض الصرع، في حين أنّ الصرع هو الاستعداد الذي يقوم به المخ لينتج الشحنات المفاجئة من الطاقة الكهربائية والتي بدورها تُؤثّر بإصابة وظائف المخ الأُخرى بالخلل. فإصابة شخص بنوبة تشنج واحدة لا تعني بالضرورة بأنّ الشخص يعاني من مرض الصرع، فالإصابة بالتشنج مرّة واحدة قد تحدث لأسباب متنوعة، مثل تعرُّض الرأس لإصابة شديدة، أو ارتفاع درجة الحرارة، أو نقص الأكسجين. في حين أنّ الصرع هو عبارة عن إصابة مستمرة تؤثّر على الأجهزة الحسّاسة في المخ، ممّا يُنتج اختلالًا في النشاط الكهربائي والإصابة بنوبات التشنج المُتكرّرة. ومرض الصرع قد يكون وراثيًا أو جينيًا، وقد يكون لسبب خلل تصيب الدماغ. وفي ذلك الزمان البعيد لم يكن الناس يعرفون لهذا المرض تشخيصًا ولا علاجًا، ممّا زاد من مُعاناة المرضى بسبب فُقدان الرجاء في التعافي ونوال الشفاء. فبسبب هذا المرض كان الصبي يقع في النار ثم في الماء مرّات كثيرة، وكان هذا الأمر يضاعف من آلام الصبي، ويزيد من احتمال موته في إحدى هذه النوبات. مسكين هذا الصبي! مسكين فعلًا!

(٢) مُحاولات الأب المحبّ: يقينًا حاول الأبُ أن يلتمسَ الدواءَ والعلاجَ عند أطباء كثيرين، لكن بالأسف فشلت كل مساعيه. ويقينًا كان الأب يحرم نفسَه من أيِّ شيء، وكلّ شيء، بغرض توفير المال اللازم للأطباء والعلاج. لكن كانت تلك تضحيات بلا جدوى! أخيرًا ظهرت بارقةُ أملٍ جديد؛ فلقد سمع الأب عن قافلة المُبشرين الذين يجتازون البلاد كارزين بملكوت الله. ولا شك أنّ الأب سمع عن المسيح؛ القائد الروحيّ لهذه القافلة، لكنه إذ لم يستطع أن يصل إلى المسيح ارتأى في نفسه أن يطلب من تلاميذ المسيح أن يساعدوه. فماذا حدث؟ يقول الرجل للمسيح: «وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ» (آية ١٦). يا للخسارة! يا للأسف: لقد ضاع الأملُ الأخير في نوال الشفاء، وصارت الحالةُ ميئوسًا منها بالتمام!

(٣) المجيء للمسيح: وفي غمرة الإحساس بالفشل والضياع واليأس، جاء الرجل إلى المسيح نفسه .. جاء جاثيًا أمامَه بكل توسُّل، وخُضوع، وبإحساسٍ كامل بالاحتياج والضعف، طالبًا منه أن «ارحم ابني» فإنّه «يُصرع كثيرًا ويتألَم» ويُلقى في النار والماء ممّا يتسبّب في اقترابه من الموت! أخيرًا، وبرغم المُعاناة اتّخذ الرجل الخُطوة الصحيحة إذ جاء إلى يسوع.

قبل أن أستكمل الحديث عزيزي القارئ اسمح لي أن أسألك: هل أنت في أمّسَ العوز والاحتياج لنوال الشفاء لأحد أحبائك؟ ابن أو ابنة؟ أخيك أو أختِك؟ والدك أو والدتك؟ صديق أو قريب؟ إذًا لماذا لا تصلي من أجله؟ تعال به أمام المسيح كما فعل هذا الرجل إذ جاء بابنه، فالمسيح هو الطبيب العظيم، الذي وحده يستطيع أن يأمر بالشفاء. إن كلمة واحدة فقط تخرج من فمه كفيلةٌ جدًا بضمان التعافي والشفاء إذ هو ربّ الأرواح والأجساد أيضًا.

(٤) سلطان المسيح على المرض: هنا تجاوب السيد مع احتياج الرجل المسكين. قال المسيح معاتبًا: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ههُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَة». يبدو أن ردود أفعال الناس على وجود المسيح بينهم لم تكن ردودًا إيجابيّة بالقدر الكافي، ممّا دعا المسيح إلى توجيه اللوم إلى ذلك الجيل الذي عاين أمجاد تجسُّد المسيح بشرًا، وشاهد المعجزات العظيمة، وتلامس مع الحياة الكاملة النقية المعصومة، لكنه بالأسف لم يستثمر الفرصة، وأكثر أبناء هذا الجيل لم يتوبوا!

لقد انتهر المسيح هذا الجيل، لكنه –في نفس الوقت- أظهر التعاطف الكامل لهذا الأب الملتاع بسبب مرض ابنه. قدَّم المسيح شفاءً كاملًا للصبي، فياله من مخلِّص ويا له من محب!

يقول البشير متّى: «فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَة». يُفرّق العهد الجديد بوضوح بين «الأمراض العصبيّة» (مثل الجنون والصرع وغيرها) من جانب، وبين سُكنى الشياطين من جانب آخر. والمسيح له كل المجد شفى كلا النوعيْن من الأمراض. لستُ في حاجة للدخول في جدل حول موضوع: «هل يمكن أن تلبس الأرواحُ الشريرة أجسادَ الناس؟» فيرد آخرون: «ولما لا، طالما أنّنا نؤمن أن الروح القدس يمكن أن يسكن في الإنسان المؤمن، فلماذا لا يسكن الروح الشرير في أجساد غير المؤمنين؟ هل هناك دليل ينفي سُكنى إبليس الشرير في الأشرار الذين يتلذّذون بالقتل وقطع الرؤوس واللهو بها في الشوارع كأنها كرة القدم؟!» على أيّ حال، أنا أؤمن أن الشيطان ليس جنتلمان، وأنه لن يكتفي من الإنسان بامتلاك ذهنه فيحرمه بذلك من فهم الحق الخاص بالمسيح المُخلِّص، بل إن أشرارًا كثيرين وقتلة وسافكي دماء أعربوا في لحظات القبض عليهم عن ندمهم، وعن يأسهم العميق من أنفسهم، لأنهم «سلِّموا أنفسهم للشيطان»، فأقدموا على ارتكاب جرائِمِهم دون أن يطرف لهم جَفن!

هنا تقدَّم تلاميذُ المسيح وسألوا سيدَهم عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». نعم إنّ الايمان بالمسيح هو التعبير البشريّ عن الثقة في شخصه الكريم المبارك، والصلاة هي طلب تدخُّله الإلهيّ للحُصول على الشفاء. إنّه الله القادر على كل شيء، وهو وحده طبيب القلوب والأجساد. إنه لا يشفي من الأمراض الجسدية فقط، بل يشفي أيضًا من الأمراض الروحيّة، ويُعالج داء الخطيّة، ويضمن الحياة الأبدية. فقط أن نحن وضعنا ثقتنا فيه وجئنا إليه بأمراضِنا، إن حملنا إليه أقرباءنا وأصدقاءنا، فسُرورُه هو في التجاوُب معنا، وفي الرثاء لحالنا، إذ «فيما هو قد تألم مجرَّبًا يقدر أن يعين المُجرّبين» (العبرانيين ٤: ١٤)؟

تعال إلى المسيح. تعال إليه واثقا فيه،

هو ينتظرك ليباركك وليشفي كل من تأتي بهم إليه.

من يعرف موعد موته؟

هل يمكن أن يعرف الإنسانُ موعدَ موته؟ هل يمكن أن يختارَ المرءُ طريقةَ خُروجِه من هذا العالم إلى العالم الآخر؟ هل يمكن أن يُخيّر الإنسان أيّ الميتات يموتها؟ أن يموت على سريره ووسط أهله وأحبابه، أو أن يموت بطريقة أخرى؟!

إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة واضحة وُضوح الشمس: لا، كلا، لا يمكن .. كل هذه الأسئلة إجابتها النفي القاطع!

         ومع ذلك، وللأمانة العلميّة، أعترف بأنني وجدتُ من البشر من شَعَرَ بدُنُو أجله قبل أن يلقى رَبَّه مباشرة: بعضُ لاعبي الملاكمة استشعروا اقتراب الأجل قبل مباريات كانت الأعنف في تاريخ اللعبة. وكذلك بعضُ المحاربين قبل أن يشنَّ عليهم الأعداءُ الغاراتِ الجويّة .. بعض المسافرين قديمًا وحديثًا قبل أن يركبوا السفن أو الطائرات... بعض المنتحرين قبل أن يُقدموا على هذه الخطوة الأسيفة!

         لكن وللأمانة أيضًا، لم أقرأ في حياتي عن شخص تنبّأ عن موعد موته على وجه الدقّة، وعن الطريقة التي سيموت بها، وعن أحداث هذا الموت وتفاصيله إلا المسيح وحده. لقد تنبّأ المسيح عن موته ثلاث مرّات، كما أخبر تلاميذَه عن طريقة موته (مُعلَّقا فوق الصليب)، وعن تفاصيل هذا الموت وأحداثه. نقرأ في إنجيل البشير متّى عن نبوّات المسيح بخُصوص موته، كما دوّن لنا البشير مرقس كذلك هذه النبوات الثلاث في بشارته الأصحاحات ٨، ٩، ١٠ .. لكنني هنا سأكتبها كما دوّنها البشير متّى:

  • «مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلًا: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاس» (متّى ١٦: ٢١- ٢٣).
  • «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». فَحَزِنُوا جِدًّا» (متّى ١٧: ٢٢-٢٣).
  • «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذًا عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى ٢٠: ١٧-١٩).

ما الحقائق التي يقولها المسيح بشأن خُروجه من هذا العالم؟

إنّ المسيح اختّص التلاميذ الاثني عشر وحدهم (الحواريين) بهذا الإعلان الخاص بموته. من الواضح أن إمكانية الإيمان بمسيّا مُتألّم ومصلوب ومُهان كانت إمكانية ضعيفة عند الجميع، بل حتى تلاميذ المسيح الذي عاشوا معه، وعاينوا عظمته، وشاهدوا بأنفسهم آياتِ تميّزه وتفردُّه كانوا غير قادرين على الاستيعاب تمامًا. لقد كانوا يحلمون –كبقية الشعب اليهوديّ- بمسيّا الله الذي ينصُر اليهود على الجنود الرُّومان الأجلاف، الذين أذاقوهم مرارة الاحتلال والاستعباد. كانوا يرغبون في الخضوع لمسيّا يعيد لهم أمجاد مملكة داود واتساع مملكة سليمان ورخائها. كانوا يريدون البركات الاقتصاديّة والزمنيّة حتى يعوّضهم المسيا عن أزمنة الفقر والجوع. لكنهم لم يكونوا مستعدين بالمرّة لقُبول المسيّا المتألم.

ترتيبًا على ذلك، انتابت التلاميذَ مشاعرُ الحزن واليأس، حين قال لهم المسيح عن أحداث موته قبل أن تتم هذه الأحداث. ولعل بطرس – مِقدام التلاميذ والمتحدّث الرسميّ باسمهم- كان يتكلّم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن باقي التلاميذ حين تجرّأ، وهو التلميذ، فانتحى بالسيد جانبًا وابتدأ يوبِّخ يسوع وينتهره! ولنا أن نسأل: كيف طاوعت بُطرسَ نفسُه ليُقدِم على انتهار مُعلمه وسيده؟ الإجابة: لقد كان بطرس وسائر التلاميذ رافضين لطريقة يسوع في الطاعة للآب وفي التضحية بنفسه من أجل فداء البشر.

كيف أجاب يسوع على سؤال بطرس واستنكاره لفكرة الصلب؟ قال له يسوع منتهرًا وموبِّخًا: «اذهب عني يا شيطان: أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس» (الآية ١٦: ٢٣). لنلاحظ أن المسيح كان قد سبق، قبل قليل، فأثنى على بطرس وامتدحه حين اعترف بطرس الاعترافَ الحسن قائلًا إنّ يسوع هو «المسيح ابن الله الحي»، وعندئذ طوّبه يسوع قائلًا: «طوباك يا سمعان بن يونا. إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك، بل أبي الذي في السماوات .. وأنا أقول لك: أنت بطرس (الصخرة)، وعلى هذه الصخرة – صخرةِ هذا الإيمان القويم- أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (١٦: ١٨). لماذا تغيّر موقف المسيح بالنسبة لبطرس؟ الإجابة: لأنّ المسيحَ رأى في كلمات بطرس مُحاولة «شيطانية» لإثنائه عن الصليب. كان المسيح يعلم جيّدا أن الآب قد أرسله إلى العالم لأجل هذه الساعة؛ ساعة الصليب. وكان يعلم أن نجاتَنا نحن البشر، من دينونة خطايانا ومن عقابِنا الأبديّ بسبب هذه الخطايا، لا يمكن أن تتحقق إلا متى استوفت عدالةُ الله الجزاءَ. هكذا قال له –فيما بعد- المجتمعون عند الصليب- مُستهزئين: «خلّص آخرين، أمّا نفسه فما يقدر أن يخلصها» (متى ٢٧: ٤٢). ورغم مرارة الكلمات وقسوة الاستهزاء، إلا أنّ هذه الجملة صحيحة تمامًا؛ فموت المسيح على الصليب هو ما يُخلِّصنا من خطايانا. كان على المسيح أن يختار بين سلامته الشخصيّة، أو سلامتنا ونجاتنا نحن. لذا أسلم ذاته لأجلنا حتى يُخلِّصنا من عقاب شرورنا وموتنا الأبدي.

كان المسيح يعلم تمامًا بكل تفاصيل المؤامرة التي تُحاك ضده، والتي ستؤدّي في النهاية إلى موته مُعلَّقا على الصليب. لقد أشار يسوع إلى الدور القذر الذي لعبه رجالُ الدين اليهودي من كتبة وفريسيين. كان رجال الدين قد استشعروا الخطر بسبب شعبيّة المسيح الجارفة والتفاف الجموع حوله، فأكل الحقدُ والغيظُ والحسدُ قلوبَهم. لهذا دوّن لنا البشير متّى أنَّ بيلاطس الوالي «علم أنهم أسلموه حسدًا» (٢٧: ١٨). كذلك كان تطهير الهيكل (ربّما للمرّة الثالثة) إمعانا من المسيح في فضح طمع رجال الدين من الصّدوقيين، دافعًا لهم لكي يحوّلوا بيت الله إلى بيت تجارة، ضاربين بكلِ قدسيّة البيتِ عرضَ الحائط. لقد كان برُّ المسيح كاشفًا لخطاياهم، وكمالُه فاضحًا لنقص محبتهم لله وتفضيلهم المصلحة المادية على احترام بيت الله، وكانت قداستُه الكاملة سببًا في إيذاء أعينهم الرمداء التي كرهت النور!

والأكثر من ذلك، كان المسيح يعرف جيدًا أن رجال الدين لا بد أنهم سيسلمونه إلى أيدي الأمم الذين سيهزأون به ويجلدونه وسيصلبونه. ورغم أن المحكوم عليه بالموت صلبًا كان لا يُجلَد أبدًا، لكن من المدهش أن يسوع عرف وتنبّأ أن بيلاطس سوف يجلده، في محاولة لاستعطاف قلوب اليهود المشتكين على المسيح، حتى يتمكن من إطلاقه. لكن النتيجة السيئة أن بيلاطس ارتكب الجريمتين معًا، فبعد أن جلد يسوع لاسترضاء اليهود، حاول أن يطلقه. فلما رفضوا محاولته، أسلم يسوع لمشيئتهم فصلبوه! لقد كان الصليب بالنسبة ليسوع هو اللحظة التي فيها اجتمع الخُصومُ معًا من أجل تحقيق غايتِهم الشريرة، فصار صليبُ المسيح الدليلَ على إدانة البشريّة كلها التي لم تعرف ربَّها وسيدها بل اجتمعت ضده. لقد «قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنحل عنا رُبطهما» (المزمور ٢: ٢).

لكن الأغرب من الكل أن المسيح عرف أن هذا الموت ليس هو نهاية المطاف، فالصليب سيعقبه القيامة، والنور سوف يهزم ظُلمةَ القبر، والحياة سوف لا تتوقف بسبب الموت. قال المسيح للتلاميذ إنه «في اليوم الثالث يقوم». الغريب أن التلاميذ لم يفكروا في عظمة القيامة بل انحصر تفكيرهم فقط في بشاعة الموت على الصليب. لقد أكّد المسيحُ لتلاميذه في كل إعلان من الإعلانات الثلاثة أنه سيقوم من بين الأموات، لكن البشير متّى لم ينسَ أن يدوِّن لنا أن ردّة فعل التلاميذ أنهم «حزنوا جدّا» حينما سمعوا خبر موته القريب فوق الصليب.

كم نشكر الله من كل القلب: فالموت ليس هو النهاية، بل الحياة. القبر ليس هو المصير الأخير بل القيامة. لقد «تعيّن ابن الله بقُوّة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات: يسوع المسيح ربنا» (رومية ١: ٤). ولولا القيامة لما كنّا قد تيقنا من هويّة المسيح كالمُخلِّص والرّب. ولولا القيامة لما كنا قد تأكدنا من قُبول الآب لتلك الذبيحة الكفاريّة التي نالت الرضى الكامل، وبسببها صار لنا الدخول بجراءة إلى الله القدوس الذي يقبلنا في ابنه المحبوب، ويرضى عنا فيه كل الرضى. هليلويا .. مجدًا للحمل المذبوح لأجلنا.

عزيزي القارئ،

بإمكانك أن تحصل على هذا اليقين: أن الله قد أحبك .. أن الله قد رضيّ عنك بالتمام، وأنه سيمنحك الحياة الأبديّة حُبّا لك، لأنك أحببتَ الابن المبارك .. لأنك قبلتَ ما فعله لأجلك على الصليب، ولأنك خصّصتَ منافع هذا الموت لنفسك بالإيمان به.

قال الإنجيل: «إن كل الذين قبلوه (أي قبلوا الإيمان بالمسيح)، أعطاهم المسيحُ سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، أي المؤمنون باسمه .. الذين ولدوا ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله». إنّ الإيمان بالمسيح هو بمثابة ولادة من جديد .. ولادة روحيّة من الله؛ الروح القدس .. ولادة في عائلة جديدة هي عائلة الله .. وبدُون الولادة الجديدة لن يرى الإنسان ملكوت الله ولن يدخله.

هل تقبل؟

هل تفتح قلبك له فيحسب لك بركات صلبه وقيامته؟

هل تقتنع بأن مسيحًا غير مصلوب ليس مسيحًا على الإطلاق؟

قل له: «يا رب: أنا أقبل ما فعله المسيحُ من أجلي على الصليب، وأحتمي في دمِه المبارك من غضب عدالتك بسبب خطيتي. اقبلني به، ولأجل اسمه، فأقبل منك نعمةً ورسالةً في جميع الأمم. آمين».

موقف المسيحيّة من الفقراء والمطرودين والمهمشين - بشارة لوقا نموذجًا

تأليف د. القس مارك آلان پاول

ترجمة القس أشرف بشاي

مقتطف من موسوعة "العهد الجديد يتكلّم"، الكتاب الأول "البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل"

يكشف لنا إنجيل لُوقا اهتمامًا خاصًّا بالمنبوذين وضحايا الظُّلم وكُلّ الفئات المُهمّشة في المُجتمع. إنّ سلسلة نسب المسيح الواردة في بشارة لُوقا تعود بأصله حتى آدم. كان هدف البشير أن يُؤكّد على الرّابطة الّتي تربط بين المسيح من جهة مع البشر من جهة ثانية (3: 23-38). لقد تحدّى يسُوع ضيقَ الأُفق الّذي يُحدُّ اهتمام الله ويحصُره في جماعة أو أُمّة بعينها فقط (4: 24-27 قارن 2: 32؛ 3: 6، 8). وصمّم يسُوع أنّ يكون إنجيلُه الّذي يُعلن اسمه رسالةَ رجاء لجميع الشُّعوب (24: 47 قارن 2: 32). وخلال هذا التّحوُّل الحصريّ فإنّ المُزدرى والمُهان والمُحتقر سيكون لهم اهتمامٌ خاص. لذلك نرى في بشارة لُوقا مقاطع فريدة وطويلة تتصدّى للتوجُّهات المُسيئة للسّامريّين (9: 51-56؛ 10: 29-37؛ 17: 11-19)، وللعشارين؛ أي جُباة الضّرائب (15: 1-2؛ 18: 9-14؛ 19: 1-10؛ لاحظ أيضًا 5: 27-32؛ 7: 34).

ماذا ينتفع الإنسان

كتب أحد الشعراء المسيحيين شدوًا قال فيه:

أيُّها الإنسانُ يا مَنْ

تِهتَ في كُل طريق

تبتغي مُلكًا وَسيعا

هل ارتاب يوحنا المعمدان في هوية المسيح؟

بقلم القس أشرف بشاي

أمران تكرههما كُلّ زوجة: الغيرة المُبالغ فيها والشك. إنّ الشك تعبير عن عدم الثقة في شخص المحبوب. ينطبق ذلك على كل العلاقات البشريّة أمّا في علاقتنا مع الله فالأمر يختلف قليلًا: يريد الله أن تنبني علاقتُنا معه على الإيمان. ما هو الإيمان؟ الإيمان هو «الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى» (عبرانيين١١: ١). نحن نؤمن بالشمس حتى ولو غابت، ونصدِّق أن الطائرة ستصل بنا إلى وجهتنا رغم عدم معرفتنا الشخصيّة بقائدها، ونثق في أطبائنا رغم أنّنا لم نكن معهم حين درسوا الطب أو الجراحة. إنّ الإيمان ليس رفاهية ولا أمرًا زائدًا عن الحاجة، بل هو ضرورة أساسيّة من ضرورات العلاقات الناجحة. وفي علاقتنا مع الله يُطالبنا الله بالإيمان به والثقة فيه وهو يُكافئ هذا الإيمان ويُقدِّره.

سأروي هنا حادثة شك يُوحَنَّا المعمدان في شخص المسيح. لقد أُخبر يُوحَنَّا المعمدان بالمعجزات العظيمة التي صنعها المسيح حين شفى المرضى وأقام الموتى. عندئذ «دَعَا يُوحَنَّا اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ الرَّجُلاَنِ قَالاَ: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُماَ: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (لوقا ٧: ١٩-٢٣).

كان الملكُ هيرودس قد أصدر أمرًا باعتقال يُوحَنَّا المعمدان لأنّ المعمدان كان قد وبّخ الملك الذي أخذ زوجةَ أخيه على حياة أخيه. غضب الملك فسجن يُوحَنَّا، وطالت مدة الاعتقال حتى زادت عن سنة، إلا أنّ تلاميذ يُوحَنَّا المعمدان كان مسموحًا لهم برُؤية معلِّمهم فأخبروه بمعجزات المسيح العجيبة: لقد شفى المسيح عبدَ قائد المئة الرّوماني بمُجرّد الكلمة وعن بُعد، بل لقد أقام المسيحُ الشاب الميت؛ ابن أرملة نايين. أخبر التلاميذُ معلِّمَهم كيف تتبع الجماهير العريضة المسيح، وكيف تذهلُهم تعاليمه الساحرة وتدهشُهم أفعاله الباهرة.

كان ليوحنا المعمدان علاقة حلوة وعميقة مع المسيح. لقد عرف المعمدان قدرَ المسيح، وأحبّه حُبًّا جمًا. ويوحنا بدوره- لا يرتاب أبدًا في حب المسيح له. فكيف لا يسأل المسيح عن المعمدان في سِجنه هذه الأشهر الطويلة؟ بل كيف لا يتدخّل المسيح مُعجزيًا لإنقاذه وإنصافه؟ أليس المسيحُ نصيرَ المظلومين؟ أليس هو مسيا الله «حبيبي الَّذِي أَعْضُدُهُ يقول الآب- مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ، وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ» (إشعياء ٤٢: ١- ٤)؟ كان السؤال المُحيّر الذي طالما تردَّد في ذهن المعمدان: ألا يرى المسيح الظُلم الفظيع الذي أصابني؟ ألا يعرف المسيح أنّ هذا الظلم كان نتيجة مُباشرة للصلاح الذي عِشته وللحقّ الذي أعلنتُه بشجاعة في وجه ملك ظالم وشرير ومستبيح؟! فكيف لا يمُد المسيحُ صديقُه وابنُ خالته يدَه القديرة لينتشلَه من هذا الضيق والخطر ولو اقتضى الأمر إجراء معجزة؟

ولعلّ المعمدان كان يعتقد أن المسيح سيكون ملكًا أرضيًا جبارًا، يملك من البحر إلى البحر، وينشر العدالة والسلام بين أرجاء المسكونة. ولأن يُوحَنَّا استسلم لهذه الأفكار والتساؤلات فقد استولى عليه الشكُ والقنوط. لقد كان يُوحَنَّا المعمدان إنسانًا معرَّضًا كأي إنسان آخر للسقوط في الخطأ، لذا فبعد أن كان مُتمتّعًا بالحُريّة والحُظوة صار أسيرًا بسبب جرأته في قول الحق، وقادته ظروفُ الأسر المريرة إلى الشك!

ربَّما نلوم يُوحَنَّا المعمدان ولو في سريرتنا، لكن ما أصعب أن يقيَّد الرجل وهو في عزّ قوته وريعان شبابه، لا سيّما بعد سنين طويلة من الهمّة والعمل والإنجاز. لذا ففي يوم من أيام سجنه فرغ صبرُه وخارت عزيمتُه، فأرسل اثنيْن من تلاميذه إلى المسيح سائلًا: « أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَر؟» هل أنت حقًا مسيا الله الموعود به، أم أن علينا أن ننتظر من سيأتي بعدك؟!

تقابل تلاميذُ المعمدان مع المسيح وطرحا عليه سؤال النبيّ السجين، وبترتيب العناية الإلهيّة كان المسيح قد أجرى معجزات لشفاء الكثيرين في ذات الوقت. ثم قال المسيح: «طُوبى لمن لا يعثُر فيّ». ونستنتج من إجابة المسيح للتلميذيْن أن سؤال المعمدان كان سؤالُا جادًا وحقيقيًا ناتجًا عن شكوك ملأت قلبه وذهنه. لقد شكَّ المعمدان في المسيح بعد كلِّ ما رآه وسمعه. رأى يُوحَنَّا السماوات مفتوحة وسمع صوتَ الآب يشهد لابنه المبارك: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (متّى ١٧: ٣) لكنه أمام التجربة المريرة ضعف إيمانُه وشكَّ في هُويّة المسيح!

عزيزي القارئ، هناك شكوك تملأ القلب البشريّ بسبب تمسُّك الإنسان بخطايا مُعيَّنة. هذه الشكوك لا يُمكن الانتصار عليها ما لم يتخلَ أصحابُها عن خطاياهم. وهناك نوع ثان من الشكوك ينتج عن قلّة المعرفة وهذه الشكوك تزول بمُجرَّد زوال أسبابها؛ فحين يطلب المرء الحقيقة لذاتها فإنّه يجدها، وحين يسأل الإنسانُ الله الهدايةَ والإرشاد والرشاد فإنّ الله حاضر ليتكلِّم عن نفسه للبشر. وهناك نوع ثالث من الشكوك التي تهاجم ضمير الإنسان المؤمن وذهنه بسبب تجارب الحياة وآلامها، والأمل في الانتصار على هذا النوع من الشكوك معقود على مُجرَّد «كلمة» تأتي من فم الله مباشرة. كان هذا النوع من الشكوك هو ما أصاب أيوب، بسبب تجربته التي نقرأ عنها في سفره الوارد باسمه في العهد القديم. وهذا هو نفس النوع من الشكوك الذي هاجم ذهن المعمدان هنا. لكن الشيء الجميل أنّ أيوب توجّه بشكوكه إلى الله، ويُوحَنَّا المعمدان لم تبعده شكوكُه عن المسيح، بل بالأحرى ألجأته للمسيح. لقد انتصر الإيمان على الشك في قلب المعمدان، ورغم الخوف والميل الطبيعي لليأس لكن إجابة المسيح القاطعة، المقرونة بالبرهان الدامغ والدليل القاطع، لا بد أن تكون قد أزالت غيومَ الهواجس وسندت الإيمان.

يرى بعضُ الدارسين أنّ المعمدان لم يشُكّ قط في المسيح، بل لقد أراد فقط أن يوجّه أنظار تلاميذه إلى المسيح عند الحصول على جواب لهذا السؤال الجوهري. فإن صَدَقتْ هذا الفرضيّة يكون المعمدان قد استمر في نُكران ذاته، إذ استمر في سعيه لهداية البشر إلى المسيح، الذي شهد عنه يومًا إنّه «ليس أهلًا أن ينحني ليحُل سيور حذائه». وعلى أي حال، لقد شاء الآب السماوي الحكيم أن يموت المعمدان شهيدًا بسبب الحق الذي أعلنه في وجه ملك ظالم، فاستحق المعمدان أن يحصل على مجد مضاعف في الحياة الأبديّة. لقد أعطانا المعمدان نموذجًا فريدًا للخدمة النبويّة التي لا تهاب أحدًا وللجُرأة الدينيّة التي تطيع الله أكثر من الناس، حتى لو كانوا ملوكًا.

بقي أن نقول إنّ المسيح اختار أن يُجيب عن سؤال المعمدان بالأفعال لا بالأقوال: « ففِي تِلْكَ السَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِين». طلب المسيح من الرسوليْن أن يقولا للمعمدان شهادتهما عمّا رأيا وسمعا خلال خدمة المسيح الشفائية والتعليميّة. ولا شك أنّ المسيح عرف مسبقًا أن يُوحَنَّا (الذي كان آخر أنبياء العهد القديم) سوف يدرك ببصيرته الروحيّة هويّة المسيح، الذي تحقّقت في شخصه وخدمته كُلّ نبوّات العهد القديم.

عن هذه الحادثة قال أحد الدارسين قولًا حكيمًا أنقله لك عزيزي القارئ: «فحين قال يُوحَنَّا المعمدان أسوأ ما يُمكن أن يُقال عن المسيح، قال المسيح عن المعمدان أجمل ما يمكن أن يُقال عن إنسان!» لك المجد يا سيّدي! قال المسيح للجموع بعد أن انصرف رسولا يُوحَنَّا المعمدان هذه الكلمات: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لاَبِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ فِي اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَان» (لوقا ٧: ٢٤- ٢٨).

إنّ الله في محبته يُقدِّر ضعفَنا البشريّ، وهو لا ييأس منّا أبدًا. إن كُنّا نلجأ إليه في أوقات تجاربنا العاصفة وشُكوكنا الشديدة فإنّه لا يتركنا أبدًا بل يأتي إلينا. ورغم أن الله قد يختار ألا يجيب عن أسئلتنا الحائرة إلا أنه يبقى هناك مُؤازرًا لنا وداعمًا، وفي نعمته لا يطلب منّا إلا أن نطرح هواجسَنا عنده وهو يعتبر هذه التصرُّف نوعًا من الإيمان به - قياسًا على لجوء الأبناء بأسئلتهم إلى أبيهم المُحبّ. لذا دعونا لا نخشى التساؤل، ولا نرفض السائلين. دعونا ننظر لخِبرة الإيمان على أنَّها «رحلة مع الله وإلى الله» وما الشكوك والأسئلة إلا طريقة للاكتشاف والتعليم.

أخي المؤمن، تعال بأسئلتك إلى الله. تعال إليه بشكوكك، وهو سيرحب بك. لا تدع شكوكك تقودك للبعد عنه. بل ألق على الربّ همّك وأحمالك وهواجسك.

            

        

مجموعات فرعية