رؤية المَسِيح في العهد القديم

أبنير تشو Abner Chou منذ خمسمائة عام، نادى المصلِحون بشعار «سولوس خريستوس»، أي المَسِيح وحده. كان هذا الشعار هو نبض عصر الإصلاح. لكن، وبعد مرور خمسمائة عام، ما زال شعار «المَسِيح وحده»يقف
المزيد

لماذا نقول عن المسيح إنه ابن الإنسان وابن الله؟

بقلم تول تويس ما دلالة جمع هذيْن اللقبيْن معًا في مشهد محاكمة المسيح؟ هل كان الغرض هو الإشارة إلى وجود علاقة مُعيّنة بين ابن الإنسان وابن الله؟ ردًا على هذا، نلاحظ
المزيد

الكتاب المقدس في بيئته

بيئة الإنسان الطبيعية في معظمها هي من صنع يديه ، هذه الحقيقة وضعها شيشرون في فم بالبوس الذي قال في خطابه : " نحن البشر نتمتع بمر السهول والجبال .
المزيد

مَصير الإنسَان النّهائي

للشهادة المسيحية الأمينة استجابتان: فالبعض يقبلون المسيح ويخلُصون، وآخرون يرفضونه ويضيعون: «فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱلله» (1كورنثوس 1: 18). قد تكون هذه الكلمات
المزيد

أساسيات الحياة المسيحية - الدرس الرابع

قوة الصلاة ترجمة أشرف بشاي أبناء وورثة في عائلة هي الأكثر ثراء في الكون كله «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِه»(يوحنا ١: ١٢)، «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ
المزيد

قداسة الله تظهر في دينونته

من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا

تأليف

ريتشارد بوكهام

ترجمة

أشرف بشاي

يمكن اعتبار سفر الرُؤيا ككُلّ تحقيقًا للطلبات الثلاث الأُولى الواردة في الصّلاة الرّبانيّة: «لِيَتَقَدَّسِ اسمُكَ. لِيَأتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُن مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرضِ» (متّى 6: 9-10). لقد عاش يُوحنّا الرّائي وقُرّاؤه الأوّلون في عالمٍ لا يُقدّس اسم الله ولا يخضع لمشيئته. كان الشّرُّ حاكمًا من خلال الظّلم السّياسيّ والاستغلال الاقتصاديّ اللذين كانا عمودا النظام الرُّومانيّ. في الأصحاح الرّابع من الرُؤيا انفتحت عينا الرّائي على السّماء؛ مجال الحقيقة المُطلقة والقداسة الكاملة وسيادة الله وبرّه. من هذه الرُؤيا التي تُقدّس اسم الله والتي ترى مشيئة الله تُتمّم في السّماء كانت البداية؛ فمن الطّبيعيّ أن يُتبع ذلك برُؤيا ملكوت الله يأتي على الأرض. هذا ما يجعل رُؤيا العرش في الأصحاح الرّابع تستمرُّ كريستولوجيًّا في الأصحاح الخامس، ثم يكوّنُ الأصحاحان معًا تأصيلًا لكُلّ ما سيتبع. هناك شبكة واسعة من الصّلات الموضوعيّة والأدبيّة التي تربط بين الأصحاح الرّابع وبقيّة السفر التي تلي. تربط هذه الشّبكة بين رُؤيا العرش الإلهيّ (ص 4) وبين رؤى الدّينونة التي تُوشك أن تأتي على العالم وعلى قوّات الشّرّ. إنّ قداسة الله وبرّه يتطلّبان دينونة الإثم على الأرض وتُفسح تلك الدّينونة المجال لملكوت الله الآتِ إلى العالم. وهناك ثلاث مجموعات من الدّينونات/الأحكام: الختوم السّبعة (6: 1-17؛ 8: 1، 3-5)، والأبواق السّبعة (8: 2، 6-21؛ 11: 14-19)، الضّربات السّبع (15: 1، 5-21). ولأنّ رقم سبع هو عدد الكمال، فإنّ هذه المجموعات الثلاث من الضّربات تُكمل دينونة غضب الله على العالم الآثم. بكلماتٍ أخرى، فإنّ الضّربات السّبع في كُلّ مجموعة تُصوّر الفعل النهائيّ للدينونة حيثُ يُدمّر الشّرُّ ويحلُ ملكوت الله. وهذه المجموعات الثلاث مُرتبطةٌ معًا بحيث أنّ الجامات السّبعة تتضمّن الأبواق السّبعة، والأبواق السّبعة تحتوي الضّربات السّبع، لذا فكُلُّ مجموعة من هذه المجموعات الثلاث تصل إلى ذات الغاية لكنها تبدأ جميعًا من نقطة بداية قريبة جدًا من نقطة النهاية. هذا هو السّبب الّذي جعل من المجموعات الثلاث نُقطة مُتقدّمة جدًا: إنّ دينونة الجامات أثّرت على رُبع سُكان الأرض (6: 8)، ودينونة الأبواق على ثُلثها (8: 7-12؛ 9: 18)، أمّا تأثير الضّربات فقد كان غير محدود. كان هناك تحذيرٌ قبل كُلّ ضربة على أمل أنّ الأشرار يستفيقون ويتوبون (قارن 9: 20-21). لقد نجح هذا التحذير مع المجموعة الثالثة من الضّربات (قارن 16: 5-7). بطبيعة الحال فإنّ التصوير الأكثر أهميّة للضربات هو إظهار قيمتها من الناحية اللاهوتيّة، لكن لا يمكن تصوُّر إمكانيّة التنبؤ بحدوثها بشكلٍ حرفيّ.

ما المُثير بالنسبة لقُرّاء العصر الحاضر في ارتباط هذه المجموعات من الدّينونات برؤية قاعة العرش الإلهيّ الواردة في الأصحاح الرّابع؟ يبدو أنّ كُلّ مجموعة من هذه المجموعات الثلاث تصدر عن قاعة العرش الإلهيّ. إنّ الكائنات الحيّة الأربعة تستدعي الرّاكبين الأربعة على الخيول الّذين يسكبون الجامات الأربعة الأُولى (6: 1، 3، 5، 7). ينفُخ الملائكةُ السّبعة الواقفون أمام الله في السّماء في الأبواق السّبعة (8: 2، 6). إنّ الضّربات/الأوبئة السّبعة الأخيرة هي الأكثر تفصيلًا في سفر الرّؤيا، وبها يتمُّ إنهاء غضب الله (15: 1)، وهي صادرة عن غرفة العرش الإلهيّ في السّماء كما يُصوّرها الأصحاح الرّابع. إنّ الهيكل السّماويّ مفتوح (15: 5)، والملائكة الّذين سيسكبون جامات الغضب الإلهيّ على الأرض قد خرجوا لأداء مهامهم (15: 6)، وقد أعطاهم واحدٌ من الكائنات الحيّة جامات غضب الله الحي إلى أبد الآبدين (15: 7). إنّ هذا الوصف الأخير لله هو إلماعة للوصف الإلهيّ في 4: 9-10 (قارن أيضًا 10: 6). إنّه الوحيد الأبديّ الّذي لا بُدّ أن يُعاقب الشّرّ أبديًّا. أخيرًا ففي 15: 8 امتلأ الهيكل من دخان مجد الله وقوّته ولم يستطع أحدٌ أن يدخل الهيكل حتى أُتممت الضّربات السّبع. هُنا يتردد صدى نُبُّوّة إشعياء 6: 4 «ام تَلأَ ال بَي تُ دُخَاناً». هنا تكتمل الإشارة إلى رُؤيا إشعياء حين رأى الله على عرشه، بترنيمة الخليقة الحيّة «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ ال جُنُود» (4: 8) كصدى لما ورد في إشعياء 6: 3. هذه هي قداسة الله المُطلقة التي لأجلها تُنشد الخلائق الحيّة، وبسببها أظهر الله برّه ومجده وقوّته في المجموعة الأخيرة من أحكام قضائه ودينونته.

والأهم من ذلك، هو الرّابط التام بين 4: 5أ من جهة وبين الضّربات السّبع في كُلّ مجموعة، ففي 4: 5أ «ومن العرشِ يخرُجُ بُرُوقٌ ورُعُودٌ وأصواتٌ». لقد طوّر يُوحنّا أحد الملامح التي تميّز نُبُّوّة حزقيال والتي تصفُ العرش الإلهيّ (حزقيال 1: 13) في إشارة إلى ظاهرة العواصف الرّعديّة التي صاحبت إعلان الله عن نفسه في جبل سيناء (الخروج 19: 16؛ 20: 18). لذا فإنّ هذا الملمح من رُؤيا يُوحنّا يُقدّم الجالس على العرش باعتباره الله القدوس صانع العهد السّيناويّ، الإله الّذي يُطالبُ بالطّاعة لإرادته الصّالحة. لكن الصّيغة التي يستخدمها يُوحنّا هُنا في 4: 5أ قد تردد صداها أيضًا في افتتاحيّة الختوم السّبعة (8: 5)، إنّ نفخ البوق السّابع (11: 19) وسكب الجام السّابع (16: 18-21) أُكملا على النحو التالي:

  • (4: 5) «ومن العرشِ يخرُجُ بُرُوقٌ ورُعُودٌ وأصواتٌ».
  • (8: 5ب) «فحدثت أصواتٌ ورُعُودٌ وبُرُوقٌ وزلزلةٌ».
  • (11: 19) «وحدثت بُرُوقٌ وأصواتٌ ورُعُودٌ وزلزلةٌ وبردٌ عظيمٌ».
  • (16: 18-21) «فحدثت أصواتٌ ورُعُودٌ وبُرُوقٌ. وحدثت زلزلةٌ عظيمةٌ، لم يحدُث مثلُها مُنذُ صار الناسُ على الأرض، زلزلةٌ بمقدارها عظيمةٌ هكذا».

في الآية 4: 5 تُشيرُ الصّيغة المُستخدمة إلى إظهار قداسة الله في السّماء، أمّا التوسُّع في هذه الصّيغة في الشّواهد التالية فتوضّح أنّ دينونة الأرض قد حلّت الآن، وتُوضّح قرينة كُلّ آيّة منها تلك الدّينونة الآنيّة. إنّ قداسة الله تُظهرُ من خلال إدانته للشرّ، أمّا التوسُّع التدريجيّ لهذه الصّيغة فيتوافقُ مع التكثيف التدريجيّ للمجموعات الثلاث من الدّينونات (الجامات والأبواق والضّربات). إذًا والحال هكذا، فكُل دورةٍ من الدّورات الثلاث تكشفُ القداسة الإلهيّة نفسها التي سبق أن أُظهرت في السّماء من قبل (4: 5).

            من الجدير بالذّكر أنّه في كُلّ هذه الرّوابط التي تربط بين رُؤيا العرش الإلهيّ الواردة في الأصحاح الرّابع وبين الدّورات الثلاث من الدّينونة يُلاحظ بوضوح الوجود الإلهيّ بينما يغيب التمثيل الإنسانيّ تمامًا. هذا الوجود الإلهيّ هو سمة بارزة يُحافظ عليها الأصحاح الرّابع. لا يُصوّر الله كقاضٍ بشكلٍ مباشر، بل إنّ الكائنات الحيّة التي تلتف حول العرش الإلهي هي التي تقوم بهذا الدّور القضائيّ نيابة عن الله (6: 1، 3، 5، 7؛ 15: 7) وتُكلّف الملائكة بمهام التنفيذ. إنّ مجد الله وقوته وقداسته تظهر في الدّخان الّذي يُغلّف العرش الإلهيّ وفي العواصف والزّلازل والرّعود؛ تلك التوابع التقليديّة للظهورات الإلهيّة، لكن الله بذاته لا يُرى ولا يُسمع. حتى حينما يُشيرُ يُوحنّا إلى الصّوت الأعظم الّذي يُصاحبُ سكب الجام السّابع مُوضّحًا اكتمال الدّينونة الإلهيّة «قد تمّ» فإنّ يُوحنّا يتبنى طريقة المُراوغة (التوريّة) التي كان الكُتّاب اليهُود يتجنّبونها عادةً عند الكتابة عن صوت الله بذاته، إذ اعتاد كتبةُ الأسفار اليهُوديّة طريقة التجسيم (خلع الصّفات البشريّة على الله بغرض الإيضاح anthropomorphism). إنّ الصّوت الّذي تكلّم عنه يُوحنّا ليس هو صوت الله بالذّات، بل هو الصّوت «الخارج مِنَ العَر شِ الإلهيّ» (16: 17)، لذا فإنّ طريقة يُوحنّا للتعبير عن الدّينونة الإلهيّة هي طريقةٌ بعيدةٌ كُلّ البُعد عن صورة الحاكم البشريّ الطّاغية الّذي يُسيطر على مقاليد الحُكم بشكلٍ مُتعسّف جائر.

            عندما نتذكر أنّ قصد الرّائي ليس بالقطع أن يُقارن بين السّيادة الإلهيّة في السّماء من جهة مع السّلطة المُطلقة للحُكام البشريين على الأرض من جهةٍ ثانية فإنّنا ندرك الأهميّة القصوى لهذه النقطة. وعلى العكس من ذلك تمامًا: إنّ غرض يُوحنّا هو مُقاومة الفكرتين؛ فالقُوّة البشريّة على الأرض تستمدُ إلهامها وتأثيراتها المُدمّرة ووثنيتها التي تُطالب الأرضيين بالولاء المُطلق من الشّيطان. ومع أنّ القُوّة البشريّة تدّعي الألوهيّة إلا أنّها عكس السّيادة الإلهيّة تمامًا. لذا سيكون من التخريب للغرض اليُوحنّاويّ أن نعتقد أنّ رؤياه هي مُجرد توقُّع بأنّ سيادة السّماء هي من نوع السّيادة التي يُطالب بها الحُكام البشريين. من المُمكن أن يتمّ تفادي هذا الخطر متى استُخدم لاهوت الظّهور/لاهوت إنكار اللاهوت Apophatic عند استخدام الصّور التجسيميّة (الّذي ينسب الصّفات البشريّة لله) والّذي يُلزمنا بالإيمان بتفرُّد السّيادة الإلهيّة وتساميها عن السّيادات البشريّة.[1] إنّ دينونة الله حقٌ وعادلةٌ (16: 7؛ 19: 2؛ قارن 15: 3). بعبارةٍ أخرى، تتطابق دينونة الله مع الحقيقة الأخلاقيّة للأمور، فالله يتسيّد كالقدوس الأوحد الوحيد (15: 4)، وبكلماتٍ أخرى: لدى الله البرُّ الكامل في ذاته البارّة. إنّ السّيادة المُطلقة التي تُنسب للخالق الّذي هو مصدر القيّم الأدبيّة، الّذي هو الحق والبّر في ذاته، لا تتساوى بالمرّة مع السّيادة المُطلقة التي تُطالبُ بها مخلوقاتٌ محدودة تعيش على الأرض. وعلى طول الكتاب المقدّس لا يُوجد كاتبٌ أدرك هذا البون الشّاسع بين السّيادة الإلهيّة والسّيادات البشريّة نظير يُوحنّا الرّائي.

السّيادة الإلهيّة والتجاوُز البشريّ

إنّ صورة الله كالحاكم الأعلى وكالقاضي الأخير قد انتُقدت كثيرًا جدًا في الكتابات اللاهوتيّة مُؤخّرًا، ولم تُرفض هذه الصّورة من اللاهوت النسويّ Feminist فقط، بل انتُقدت بقسوة من لاهوتيين ظنّوا أنّ نوعًا من الإسقاط الدّينيّ في شكل هيمنة ذكوريّة يطفح من تلك الصّورة. [2] هذه الصّورة، وكما سنرى في الفصلين اللاحقين، لا تُستنفذ أبدًا في سفر الرُؤيا عند وصف الله، بل تلعب دورًا رئيسيًّا في شرح هذا الفهم. وبالتالي فهي مُرتبطة بسؤال ما إذا كان استخدام سفر الرُؤيا لهذه الصّورة الإلهيّة يحمل ما يُبرّر انتقادات اللاهوتيين المُعاصرين والنسويين. هناك نوعان فقط من الانتقادات يستحقان الالتفات إليهما؛ النوع الأوّل هو الصّور الإلهيّة ذات المدلول السّياديّ الظّاهر في العقوبات الدّينيّة باعتبارها مُبرّرا للهياكل البشريّة السّياديّة ذات القوة والنفوذ. بطبيعة الحال، هذه هي القضيّة الأساسيّة في كثير من الأحيان. إنّ واحدةً من أعمق المُفارقات في التاريخ المسيحيّ أنّ الامبراطوريّة الرُّومانيّة صارت مسيحيّة (بالاسم فقط) تحت حُكم أباطرة مسيحيين. لقد صارت المسيحيّة ذاتُها أقرب ما تكون للدين الرّسميّ للدولة التي يُصوّرها سفر الرُؤيا باعتبارها وثنيّة الدّولة التي تُؤلّه نفسها. ولقد صوّر الأباطرة المسيحيّون أنفسهم على أنّهم صورةٌ للسُلطان الإلهيّ، وبينما يُعطي ذلك القول انطباعًا بأنّ ذلك المنصب هو مسؤوليّة الامبراطور أمام الله لكنه يُعطي في ذات الوقت تبريرًا دينيًا للحُكم الشّموليّ المُطلق. ومع ذلك، فهذا هو النقيض التام للصورة التي يرسمها الرّائي في سفر الرُؤيا عن السّلطان الإلهيّ. هناك، وبعيدًا جدًا عن إضفاء الشّرعيّة إلى الحكم الثيوقراطيّ البشريّ إذ السّيادة الإلهيّة لا تُبرّر ذلك. وبحُكم التعريف فالسُّلطة المُطلقة لا تنتمي إلا لله، وهذا بالضّبط ما يُسمى الاعتراف بقدرة وسيادة الله المُطلقة التي هي مصدر كُلّ قُوّة بشريّة. إنّ سيادة الله التي عملت في انجلترا في القرن السّابع عشر للميلاد قد لعبت دورًا محوريًّا في وضع الأصول الدّينيّة للديمقراطيّات الحديثة. فلأنّ الله هو الملك، إذًا كُلُّ الرّجال والسّيدات، على السّواء، خاضعون له، ولا يجب أن تنتحل/يدّعي المرءُ لنفسه شيئًا ما ليتسلّط بمُوجبه على غيره من البشر.[3]

            ولقد لاحظنا من قبل كيف أنّ سفر الرّؤيا، إذ يتجنّب خلع الصّفات البشريّة على الله، يُؤكّدُ سيادة الله. وتُستخدم صورة السّيادة الإلهيّة -في الواقع- للتعبير عن أحد أشكال العلاقات الفريدة بين الله وخلائقه التي تختلف عن كُلّ نماذج العلاقات التي تربط بين البشر. صحيح إنّ صورة قاعة العرش تأتي من العالم البشريّ، لكنها تُستخدم هنا للتنبير عن الفارق بين السّلطان الإلهيّ المُتفرّد والسّلطان البشريّ. إنّها تنبّر على الاختلافات أكثر ممّا تنبّر على التشابهات. بكلماتٍ أخرى، تستخدم هذه الصّورة للتعبير عن التعالي والسُّمو المُطلقين لله. إنّ كثيرًا من النقد المُعاصر لمثل هذا النوع من الصّور غير قادر على فهم السُّمو الإلهيّ لأنّه يفترض أنّ العلاقة بين الله والعالم الإنسانيّ يجب أن تكون في نطاق الاحترام نظير/مُقارنةً بالعلاقات التي تربط بين الخلائق. وكُلُّ الصّور الإلهيّة يجب أن تُوظّف/تعمل كنموذج للسلوك الإنسانيّ. ومن الأهميّة بمكان أن نُدرك أنّ صُور السُّمو الإلهيّ التي تُعبّر عن السّيادة الإلهيّة تعني أنّ الله يسمو عن البشر جميعًا جنبًا إلى جنب مع خلائق أخرى. لكن السّمو الحقيقيّ يعني أنّ الله يسمو بالمُطلق على كُلّ الكائنات والموجودات والخلائق. وباعتباره مصدر وهدف كُلّ الوجود المخلوق، وهو السّرُّ اللانهائيّ لجميع المخلوقات المُتناهيّة فإنّ علاقته بنا هي علاقةٌ فريدة. يُمكننا أن نعبّر عن هذه العلاقة فقط باستخدام اللغة والكلمات بطُرُقٍ غريبة تشير إلى ما هو خارج نفوسنا؛ إلى شيئ لا يُقارن بالمرّة مع اللُغات والصُّور البشريّة.

بمجرّد أن ندرك احتياجنا إلى لغةٍ إلهيّة للتعبير عن هذا السّمو الإلهيّ، عندها يُمكن أن نرى أن يُوحنّا قد نجح نجاحًا مُنقطع النظير في إيجاد لغة دينيّة تُعبّر عن هذا السّمو الفائق. إنّ تفسيراته المُميّزة للاسم الإلهيّ «الألف والياء.. الكائن والّذي كان والّذي يأتي» هي محاولات لتسميّة/لوصف الشّخص الّذي يسبق ويتجاوز كُلّ وجودٍ لانهائيّ ممّا يجعل البقاء بالقُرب منه مُرتبطًا بوجوده وبغرضه (غرض الله). ومن المُلاحظ أيضًا أن هذه التسميّات غير إنسانيّة، إذ هي ترى أنّ العلاقة بين الله والعالم تتجاوز القياسات الإنسانيّة. فمثلًا، بالنسبة لصورة العرش الإلهيّ التي يستخدمها يُوحنّا فإنّ هذه الصّورة لا تستحضر فقط السُّمو الإلهيّ، لكنها تقف بشراسة ضد تأليه القُوّة البشريّة. أخيرًا فإنّ رُؤيا يُوحنّا تُوجّه القارئ نحو عبادة الواحد الوحيد القدوس الخالق، موقظًا كُلّ أشكال التصوُّر البشريّ عن الخالق لإدراك سموّه الفائق. إنّه نوعٌ من العبادة الأصيلة التي يرسمها يُوحنّا في رُؤياه للسماء حتى نعرف نفوسنا كمخلوقات محدودة في علاقتها بسرّ السُّمو الإلهيّ غير المحدود. أمّا العبادة الكاذبة التي يفضحها يُوحنّا فهي عبادة الوحش وهي عبادة زائفة لأنّها -على وجه الدّقة- تُوجّه إلى شخص ليست له صفةُ السّر الفائق بل شخص يحاول فقط التعمية عن محدوديته. لذا فإنّ قُدرة رؤى يُوحنّا على استحضار السُّمو الإلهيّ لا غنى عنها للقصد النبويّ للتمييز بين العبادة الحقيقيّة والعبادة الوثنيّة، بين الإله الحق والآلهة الوثنيّة.

            نوعٌ ثانٍ من النقد الّذي يُوجّه لصورة الله كحاكم مُطلق لخلائقه أنّ هذه الصّورة تُقدّم الله «البعيد/المُنفصل عن العالم»، بدلًا من صورة الله الّذي يُشارك خليقته وعالمه.[4] إنّ هذا النقد يُعبّر عن فهمٍ خاطئ للسُّمو الإلهيّ. إنّ السُّمو يتطلّب أن نميّز بوضوح بين الله غير المحدود من جهة، وسائر الخلائق المحدودة من جهة أخرى، لا أن نفكّر في تلك المسافة الشّاسعة التي تفصل بينهما. ولأنّ الله مُتسامٍ وفائقٌ، ولأنّ الله ليس واحدًا من بين الخلائق المحدودة فهو قادرٌ على أن يكون حاضرًا للكُلّ بشكلٍ لا يُعبّر عنه ليكون قريبًا من الجميع أكثر ممّا هُم قريبون لأنفسهم. إنّ هذه النقطة وثيقة الصّلة جدًا بسفر الرُؤيا لأنّها تشرح كيف أنّ الله الّذي يُؤكّد على سُلطانه وسُمّوه يمكن أن يُشارك بيته وأن يجعل مسكنه مع البشر في الخليقة الجديدة (21: 3).وبحسب 21: 3-4 فاقتراب الله من خليقته هو أمرٌ صادمٌ بذات القدر من الصّدمة الّذي أصابنا عند معرفة سُموه في الأصحاح الرّابع. والأكثر من ذلك، فحتى صورة العرش الإلهيّ يُمكن أن تُصبح تعبيرًا عن قُرب الله من شعبه في أورشليم الجديدة (22: 3-4 قارن أيضًا 7: 15-17).

            إذن، لقد أصبحنا جميعًا على يقين أنّ الرُؤيا تُوضّح الفارق بين الحاضر وبين المستقبل الاسخاتولوجيّ. فالله الجالس على العرش السّماويّ في الحاضر يُنفّذ مشيئته على الأرض من خلال وُسطاء ملائكيين فقط. وفقط من خلال مجئ الله الاسخاتولوجيّ لخليقته في نهاية الأيام، وفقط في أورشليم الجديدة التي ستنزل من السّماء والتي ستلغي التمييز بين السّماء والأرض، سوف يسكن الله مع شعبه على الأرض.[5] إنّ الانطباع بأنّ الله غائبٌ عن الأرض، بمعنى من المعاني، يُؤكّد بواسطة إظهار الفارق الشّاسع بين أغنية الخلائق الحيّة الواردة في 4: 8 من جهة وبين كتابات العهد القديم على شاكلة إشعياء 6: 3 (أغنية السّرافيم «قدوس قدوس قدوس ربُّ LORD الجنود، مجدُه ملءُ كُلّ الأرض»). في رُؤيا يُوحنّا تُستبدلُ الفقرة الأخيرة بعبارة «الكائن والّذي كان والّذي يأتي». يُستدعى إلى الأذهان هُنا الأصحاح الرّابع الّذي يرسم صورة العرش الإلهيّ في السّماء الّذي يجلس عليه الله الحاكم الأعلى والّذي سيأتي إلى الأرض. إنّ مجد الله لم يُعلن بعد في عالمنا الّذي يعجُّ بالمظالم وتُسيطرُ عليه الشّرور. إنّ هذه النظرة ليست نظرة «الثنائيّة» التي ترفض عالمًا من أجل عالمٍ آخر، بل هو إدراك للشر الّذي يحجبُ مجد الله في العالم كما هو حادثٌ الآن بالفعل، لكن وفي ذات الوقت فإنّ هذا العالم سوف يُنقذ من الشّرّ إذ يسكنه البهاءُ الإلهيّ.

إنّ ذلك الأمر هو جُزءٌ لا يتجزّأ من التوقُّعات الرّؤيويّة التي ترسم العالم والتي تُصوّرُ الحاضر والمستقبل الاسخاتولوجيّ في صورة شديدة التضاد كالأبيض والأسود. لا شكّ أنّ مُعظم المسيحيين المُعاصرين يُفضّلون اقتفاء آثار المجد الإلهيّ حتى في هذا العالم الّذي يطفحُ بالظّلم. لكن سفر الرُؤيا يحتوي صُورًا لا تكشف كلّ شيئ في التو والحال. إنّ النقطة هنا هي الاهتمام البالغ بغياب برّ الله عن العالم وهو اهتمامٌ يشارك فيه يُوحنّا التقليد الرّؤيويّ اليهُوديّ. بينما يحشد الوحش قدرته على التأثير فإنّنا لا نستطيع القول إنّ الله حاضرٌ بمجده منظورًا. صحيحٌ أنّ الجميع -بما فيهم الوحش- يمارس قوته بسماحٍ/بإذنٍ من الله (13: 7) ولكن حينما تسود مملكةُ الله على الجميع عندها يمكن القول إنّ ملكوت الله قد جاء على الأرض (11: 15). وعنذ ذلك فقط سوف يصنع اللهُ مسكنه بين البشر (21: 3).

ومع ذلك، فإذا كان الشّخص الجالس على العرش قد اُستُبعد من السّماء بمعنى من المعاني، فإنّ سفر الرُؤيا لا يرسم الحضور الإلهيّ في العالم الحاضر المحكوم بقُوى الشّر. وكما سنرى في الفصلين اللاحقين، فصورة الحمل تُقدّم لنا «الذّبيح الإلهيّ» الّذي تألّم في العالم، وكذا فإنّ «الرّوح» الحاضر في الكنيسة التي تشهد للحق من خلال آلامها.

[1] اللاهوت السّلبيّ أو لاهوت الإنكار يميّز الله جذريًّا عن كُلّ خلائقه عن طريق التعبير عن ذات الله وصفاته بتعبيرات سلبيّة؛ أيّ أنّه ليس مثل المخلوقات بالمرّة.

[2] E.g. D. Hampson، Theology and Feminism (Oxford: Blackwell، 1990)، 1 5 1 - 3.

[3] D. Nicholls، Deity and Domination (London and New York: Routledge، 1989)، 236. (This book is an excellent treatment of this issue in nineteenth- and twentieth century religious and political thought).

[4] E.g. S. McFague، Models of God: Theology for an Ecological، Nuclear Age (London: S C M Press، 1987)، 63-9.

[5] لا يناقش الكاتب هنا أمر المُلك الألفي أهو روحيّ أم أرضيّ، ولكنه فقط يتعامل مع المُلك كحقيقة واقعة أيّا كان نوعُها (الناشر).

عرض كتاب

  الكرازة في العهد الجديد تأليف: جوناثان جريفيث من مقدِّمة الكاتب يتّفق كثيرون من المسيحيين في قناعةٍ مفادُها أنّ الوعظ بكلمة الله يكمُن في لُبِّ خطط الله للإنجيل في زماننا هذا؛ وبكونه...

مع ترجمة جديدة لبيان شيكاغو الصادر عام ١٩٧٨م حول مسألة عِصمة الكتاب المُقدّس تأليف كوكبة من كبار اللاهوتيين المعاصرين الذين يدافعون عن عِصمة الكتاب المقدّس من زوايا عديدة وآفاق مُختلفة. يقع...

لأن العلاقة بين شريعة مُوسَى وإنجيل المسيح يشوبُها الكثير من التشويش في أذهان الدّارسين بل والمسيحيين بشكل عام، فقد أصدرت دار كلام الحياة الأبديّة كتابًا مترجمًا تحت نفس العنوان، فبين كلمات الرب...