تأليف
د.القس اروين و. لوتزر
ترجمة
أشرف بشاي
أمام المعاناة والألم البشرييْن يظل صمت الله الواضح واحدًا من أعظم أسرار الوجود الإنساني. حينما نقف وجهًا لوجه مع الألم الإنساني غير المبرَّر فإننا نُجبَر على إعادة التفكير في نظرتنا لله وعلاقته تبارك اسمه مع الألم على هذا الكوكب، فإذا كان الله فعلاً كليّ القوة وكليّ الصلاح، فلماذا لا يضع نهاية لهذا الجنون؟ يطرح الملحدون والمتشككون على المؤمنين هذه الأسئلة الصعبة ساخرين من هذا الحضور الإلهي الذي لا يصنع أدنى فرق تجاه الاحتياج البشري. فهل يهتم الله فعلاً بهذا العالم، أم أنه يقول فقط كلامًا فارغًا من المضمون؟
لقد تحوّل كثيرون عن الله وأشاحوا وجوههم عنه غاضبين بسبب عدم استجابة صلواتهم تجاه الفقر الطاحن، والضيقات المادية، والآلام الكثيفة الواسعة الانتشار على هذا الكوكب. آخرون تشبّثوا بإيمانهم في الله رغم أنهم لا يجدون سببًا خاصًا للإيمان بأن الله في صفّهم عندما تأتيهم الكارثة.
ونظير أي كارثة أخرى، فإن الجائحة من الممكن أن تقوي إيماننا أو تدمّره، من الممكن أن تقودنا لطلب وجه الله أو إشاحة وجوهنا عنه في اشمئزاز.
كان المؤمنون هنا من قبل!
إذا كنتَ قد عانيتَ من فقدان أحد أحبائك بسبب كوفيد ١٩ أو إذا كنتَ قد فقدت عملك ولا تعرف كيف ستجد وجبة الطعام القادمة فلعلك تجد سببًا للراحة إذا أخبرتك أن الجوائح والطواعين [جمع طاعون][1] والكوارث الطبيعيّة حدثت كثيرًا وبطريقة معتادة منذ بداية التاريخ البشري، ومع أننا لا نستطيع المساعدة لكننا يجب أن نتشجّع بواسطة هؤلاء الذين سبقونا. لقد واجهوا نفس المخاوف والأسئلة التي نواجهها نحن، ومع ذلك فإن الكثيرين منهم شهدوا لإيمانهم حتى النهاية.
لقد أصابت الطواعين والكوارث هذا العالم وشوّهته منذ وقت حدوث الكارثة الكبرى في جنة عدن، عندما سقط آدم وحواء في العصيان سمحا للخطية بالدخول إلى هذا العالم. اكتب فقط كلمة الطاعون على أي محرك للبحث بشبكة الانترنت وسوف تقرأ عن بعض هذه الطواعين الرئيسية: طاعون الموت الأسود، الجدري، الأنفلوانزا الإسبانية. اجتاحت هذه الأوبئة البلاد قديمًا وحديثًا من بابل القديمة إلى الولايات المتحدة اليوم والقائمة تطول. يتكرّر نفس الأمر اليوم في دول كثيرة في عالمنا المعاصر، مسببَا نقصًا في الغذاء وحروبًا لا تنتهي ونازحين من كل الشعوب. لقد كان العالم، وما زال، مؤذيًا دائمًا، وفي بعض الدول أكثر من البعض الآخر، لكن الألم والفقدان صارا الميراث المشترك للجنس البشري كله.
ويُظهر مؤمنون كثيرون شجاعة كبيرة في مواجهة الجائحة التي تغزو العالم. عندما اجتاح الطاعون الإمبراطورية الرومانية القديمة مات عشرون بالمئة من سكانها، لكن الرومان الوثنيين لاحظوا كيف كان المسيحيون يتألمون على الرجاء. قال الوثنيون أحدهم للآخر: «انظروا كيف يحمل المسيحيون موتاهم إلى المثوى الأخير ويزفونهم كالمنتصرين!»
عندما كان ماركوس أوريلوس يخطب في الشعب متنقلاً بين العربات المحمّلة بالجُثث والتي كانت تقطع الطرق بين المدن الرومانية القديمة، كان المسيحيّون دون الجميع هم مَن التفوا حول هذه العربات. لقد اعترف مؤرِّخون كثيرون أن المسيحيّة صارت الديانة السائدة للامبراطورية الرومانية لأن هذه الأوبئة أعطت المسيحيين الفرصة الذهبية لإثبات انتصار الإيمان والرجاء المسيحييْن.
انظر، إذا كنتَ وثنيًا تعيش في مدينة اجتاحها الوبأ فقتل ثُلث سكانها، فلا شك أنك كنت ستخاف إلى درجة الرعب. عندما مات أقرباؤك وحُرقت جُثثهم فلا بد أن مخاوفك قادتك إلى التفكير في عبثية الأمل في إمكانية لقائهم مرة أخرى. ربما راودتك فكرة باهتة عن اجتماعك بهم من جديد. لن يبقى لك إلا الرعب والحزن الذي لن ينقطع وخيبة الأمل!
لكن المسيحيين واجهوا هذه المآسي بالأمل والرجاء. كتب وليام ماكنيل يصف حال المسيحيين قائلاً:
بل إن البقية الناجية من الحرب أو الوبأ أو من كليهما استطاعت أن تجد الدفء والمواساة والشفاء الفوري في الحضور السماوي لهؤلاء الأقارب والأصدقاء الذين رحلوا. لقد كانت المسيحيّة نظامًا للتفكير والإحساس بالآخرين خلال الأوقات العصيبة حين كانت تسود الآلام والأمراض والموت العنيف.[2]
إن النسق الفكري والشعوري الذي يتبنّاه المسيحيّون دفعهم إلى قبول حقيقة موت أصدقائهم، بل والاحتفال بارتقائهم بنغمة الانتصار العالية، وليس ذلك فقط بل أيضًا الاستعداد للمخاطرة بحيواتهم من أجل مساعدة الآخرين. يبدو أن كبريانوس؛ أسقف قرطاج، رحّب أيضًا بالوبأ العظيم الذي زار البلاد خلال حياته، فقد كتب سنة ٢٥١م قائلاً إن غير المسيحيين فقط هم من يجب عليهم أن يخافوا من الوباء:
يا له من أمر ضروري ومناسب أن الوباء والطاعون الذي يبدو مرعبًا ومميتًا يتفحّص ويمتحن كلٍّ منا بعدل. إنه يختبر عقولنا نحن البشر ما إذا كُنا على استعداد أن نهتم بمرضانا، ونعتني بأقربائنا بإخلاص كما ينبغي، إذا كان السادة يُظهرون العطف نحو عبيدهم المرضى، والأطباء لا يهجرون وظيفتهم في العناية بالمتألمين. ومع أن هذا المستوى الأخلاقي لم يُنجز ما هو أكثر من ذلك إلا أن المؤمنين بالمسيح وخُدامه قد قاموا به على الوجه الأكمل، حتى إننا بدأنا في طلب الاستشهاد بفرح إذ كُنا نتعلّم -بشكلٍ عمليّ- ألا نهاب الموت.
وفي معرض إجابته عن السؤال: كيف يتصرّف المؤمنون حيال الموت، يستطرد كبريانوس قائلاً:
لا يجب أن نحزن على إخوتنا الذين تحررّوا من العالم متى دعاهم الرب، لأننا نؤمن أنهم لم يُفقدوا بل إنهم سبقونا في الرحيل لينتظرونا هناك. كما تعوّدنا، نحن لا نرثي الراحلين والمسافرين بل ننتظرهم ... لا يجب أن نعطي الوثنيين الفرصة لانتقادنا بعدل وبوجه حق لكوننا نحزن ونكتئب على هؤلاء الذين نؤمن أنهم أحياء.[3]
لماذا نحزن على هؤلاء الذين سبقونا إلى حضرة المسيح؟ إن الأرض ممر والسماء حقيقة ومقر، لقد كان المسيحيّون يعتقدون أن أحبابهم وأقرباءهم الذين سبقوهم إلى السماء حيث ينتظرهم المسيح محظوظون للغاية. لقد استطاعوا أن يهتفوا مع الرسول بولس: «لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْح» (فيلبي ١: ٢١). كانت هذه الثقة التي أظهرها المسيحيون الأوائل بمثابة شهادة جاذبة للوثنيين لاعتناق الإيمان المسيحي.
حينما حلّت كارثة وباء ويتنبرج عام ١٥٣٧م، سُئل مارتن لوثر سؤالاً عما إذا كان يتعيّن على المسيحيين أن يمدّوا يد العون للمرضى والمحتضرين. قال لوثر إن كل مسيحي ينبغي عليه أن يجيب هذا السؤال عن نفسه، وأردف إنه يؤمن أن هذا الوباء سببه الأرواح الشريرة، لكن -والكلام ما زال للوثر- بصرف النظر عما إذا كان هذا الوباء مرسومًا إلهيًا أو عقابًا من الله فإننا يجب أن نخضع بصبر لله وأن نخدم الآخرين مخاطرين حتى بحيواتنا، تطبيقًا لما علّمه القديس يوحنا البشير «بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَة» (١يُوحنا ٣: ١٦).[4]
ويكتب لوثر مرة أخرى:
إذا كانت مشيئة الله أن يأتي علينا الشرير فيدمّرنا فإن كل احتياطاتنا لن تكون مجدية. يجب على كل منا أن يؤمن بذلك في قلبه: أول كل شيء، إذا شعر المؤمن بضرورة البقاء حيث يحتدم الموت من أجل خدمة قريبه، فليستودع نفسه بين يديّ الله قائلاً: «يا رب، إنني أسلّم نفسي بين يديْك، أنت من أبقيتني هنا، لذا فلتكن مشيئتك. إنني خليقتك الضعيفة التي تحتاج إليك، فإذا قتلتني أو إن حفظتني خلال الوباء كما كنت تفعل في الماء والنار والجفاف وكل الأخطار الأخرى فلتكن مشيئتك».[5]
لقد أخذ لوثر وزوجته كاترين بعضًا من أصدقائهم المرضى إلى منزلهما ليعتنيا بهم. نعم إن الوباء قد يكون «دينونة أو مرسومًا أو قدرًا إلهيًا»، لكن يتعيّن علينا أن نبذل كل جهدنا من أجل إنقاذ حياة الآخرين، وأن نخدم المحتضرين منهم. فإن لقى أحدنا حتفه أثناء خدمته للمرضى فلتكن مشيئة الله. لعل لوثر أراد أن يقول لنا إنه أثناء مآسي الآخرين تكمن فرصتنا الذهبية التي لطالما انتظرناها لننتزع أنفسنا بعيدًا عن نمط الحياة المريح، موّرطين أنفسنا في آلام هذا العالم ومعاناته.
لم يمكث يسوع في علياء سمائه بل دخل إلى عالمنا المؤذي. أتى ليموت موتًا عنيفًا حتى يفتدينا، وبدلاً من أن يعزل نفسه عن الآلام البشرية قَبِل الموت طواعية: «فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوح» (١بُطرس ٣: ١٨). لقد آمن المسيحيون الأوائل أنه يتعيّن عليهم أن يبذلوا أنفسهم من أجل الآخرين، تمامًا كما فعل مخلّصهم.
إن الكتاب المقدّس يكلّمنا عن شيئيْن: حقيقة الألم والموت البشرييْن، جنبًا إلى جنب مع الرجاء في عالم أفضل. سأتكلم لاحقًا عن أسس هذا الرجاء المعطى لنا.
أوروبا تنقسم
إن الكوارث إما أن تُلهمنا الإيمان أو تدمّره فينا!
وقع زلزال لشبونة في الأول من نوفمبر عام ١٧٥٥م وكان هذا الزلزال هو الكارثة الأكثر شهرة وتدميرًا على الإطلاق طوال العصر الحديث حتى وقع زلزال آخر في المحيط الهندي الذي عُرف باسم تسونامي في أواخر ٢٠٠٤م. لعل كوارث أخرى أسوأ حدثت خلال تلك الفترة، لكن واحدة منها لم تناقش على هذا النحو المتسع وكان لها من التداعيات العميقة مثلما حدث في البرتغال في ذلك اليوم. إن الدمار الذي حدث للعالم المادي في هذه الكارثة سبّب إزعاجًا بذات القدر على الصعيد الروحي أيضًا.
في ذلك اليوم كانت السماء صافية وهادئة وجميلة، لكن في لحظة واحدة انقلب كل شيء إلى كابوس مرعب. وللسخرية، حدث هذا الزلزال بينما كانت جميع الكنائس مكتظة بالعابدين إذ تصادف أنه عيد جميع القديسين. قد يفكّر المرء أن هؤلاء العابدين الذين احتموا في بيوت الله كان يجب أن ينجوا. في الواقع، هرع بعض الناس إلى داخل الكنائس وانضموا إلى رجال الدين الذين كانوا قد ازدحموا لقيادة العبادة في التاسعة والنصف من صبيحة ذلك اليوم.
قال شهود العيان إن رعب الموت بدا واضحًا على وجوه الجميع، وعندما حدثت الهزة الضخمة الثانية علا صياح الكهنة والمتعبدين، سواء بسواء، طالبين الرحمة من الله، لكن السماء صمتت أمام توسلاتهم. تساوت معظم الكنائس بالأرض في ذلك اليوم وقتل جميع من فيها. قتل الزلزال المشؤوم ما بين ٣٠-٤٠ ألف إنسان من مجموع ٢٠٠ ألف هم كل سكان لشبونة في هذا العصر.
ليس غريبًا أن كثيرين آمنوا أن هذه الكارثة كانت بمثابة دينونة إلهية أتت على هذه المدينة الساحلية الخاطئة. تحدّث أحد الآباء اليسوعيين المشهورين أمام حشد كبير قائلاً: «ليكن هذا معلومًا لديك يا لشبونة أن الذي دمّر بيوتك وقصورك وكنائسك وأديرتك، وما تسبّب في موت كثيرين من أبنائك، وجعل ألسنة اللهيب ترتفع لكي تلتهم كل كنوزك الثمينة، هو خطاياكِ البغيضة».[6] وفوق الكل، حدث هذا الزلزال في يومٍ موافق للاحتفال بعيد جميع القديسين لذلك اعتقد الكثيرون أن الله يقول إن خطايا هؤلاء القديسين كانت شديدة الخطورة لدرجة أنها استحقت دينونة الله الفورية، ولكن ما أذهل البعض الآخر أن شارعًا انتشرت فيه بيوت الدعارة لم يمسسه ضرر!
وكما كان متوقعًا، مال البروتستانت للقول بأن هذا الزلزال قد وقع كدينونة ضد اليسوعيين الذين أسّسوا هذه المدينة. وعلى أية حال فقد كانت محاكم التفتيش مزدهرة بالتمام في تلك الآونة وقد أُعدم بوحشية قاسية عشرات الآلاف ممن اُتهموا بالهرطقة. أما اليسوعيون فقد قالوا إن الزلزال يكشف الغضب الإلهي لأن محاكم التفتيش تراخت في أداء دورها.
لذا، فعلى كلا الصعيديْن البروتستانتي والكاثوليكي كان هناك إجماع بأن المأساة يجب أن تُفسّر في ضوء العالم الواضح/الشفاف: كان الله يريد أن يتواصل، بطريقة ما، مع أوروبا ليكشف لها بأن هناك عالمًا آخر خلف دنيانا هذه، وهذا العالم يمكنه أن يعطي المعنى لعالمنا الذي لا يمكننا التنبؤ بآلامه اليوم. لقد كان هذا الزلزال موضوع لعظات كثيرة ولسنين طويلة أعقبت هذا الحدث الكارثي.
لكن زلزال لشبونة أثمر أيضًا انتشارًا للإلحاد. كتب فولتير ساخرًا عن أولئك الذين مازالوا يؤمنون بالله فقال «إن الإيمان بالله أمر ساذج وأحمق. لماذا يؤمن المرء بإله لا يمكنه حماية شعبه الذين يتعبدون له في كنائسهم؟ من الأفضل أن يجحد الإنسان الإيمان بوجود الله على أن يخونه هذا الإله القوي الذي يتعهّد بالحماية والرعاية لشعبه لكنه لا يفعل شيئًا».
عندما تكهّن علماء الجيولوجيا أن الزلزال قد وقع بسبب حركة تمت تحت القشرة الأرضية، اقتنع النقاد والمتشككون بأن لا سبب يدفع البشر للدعاء لكائن إلهي للتحكم في العالم. للزلازل تفسيرات طبيعية. إن الصمت الإلهي أمام الشجر المرتعب وعدم القيام بأي فعل للتدخل لمنع الكارثة كانا سببيْن كافييْن جدًا لإنكار الإيمان المسيحي ورفض الكتاب المقدس والازدراء بالكنيسة.
يعتقد بعض المؤرخين بأن زلزال لشبونة مثّل الزخم الفكري الذي قاد إلى علمنة القارة الأوروبية حتى اليوم. من ذا الذي يرغب في عبادة إله قاسي متحجر متصلب لا يستخدم قوته الإلهية في مساعدة الشعب المذعور الذي كان يتعبّد له وقت المأساة؟ يقولون بعقلانية: إذا كان هناك ثمة إله فلا بد أنه إله أصم إذ لم يسمع لصرخات الشعب الذي كان في قمة الاحتياج إليه.
كوفيد ١٩
واجه البشر وباء كوفيد ١٩ بنفس الطريقة؛ فمن جهة أولى أثارت جائحة كورونا اهتمام الكثيرين بموضوعات على شاكلة جدوى الصلاة وأهمية التوبة. يُفترض أن اجتماعات الصلاة قد انتشرت في كل مكان. من جهة أخرى فقد رأى العلمانيون أنه لا يوجد سبب للإيمان بالله لأن المؤمنين يقاسون ويلات الوباء كغير المؤمنين، سواء بسواء.
أما «الأنبياء من تلقاء ذواتهم» فقد رفعوا أصواتهم ليُخبرونا عما يريد الله بالضبط أن يقوله وما الذي تخبئه السماء لنا. أحدهم يقول لنا مرسومًا بأن وباء كورونا سوف يقضي على العالم، وهذه تعلن لنا أن كلامه ليس من الله.[7] نبي كاذب آخر يرعى كنيسة بها ١٥ ألف عضو ويتابعه أكثر من مليون وستمائة ألف على اليوتيوب قدّم نبوءتيْن كبيرتيْن، ففي ٢٩ فبراير ٢٠٢٠م قال «إن أمطارًا ستكتسح فيروس كورونا الوبائي»، وفي أول مارس من نفس العام تنبأ بأن كوفيد ١٩ سوف ينتهي يوم ٢٧ مارس ٢٠٢٠م». وفي ٢٨ فبراير قال آخر شيئًا مشابهًا: «في غضون وقت قصير سوف يصبح وباء كورونا من ذكريات الماضي». في اليوم التالي لهذا التصريح توفي أول أمريكي بسبب الوباء.
نحن نعرف أننا لا نمتلك السلطان لكي نعلن أن الفيروس ليس من الله (حرفيًا illegal) تمامًا كما أننا لا نملك السلطان لكي نقول إن موت هذا الشخص ليس من الله. في الماضي، صلى المسيحيون لكي تنتهي الأوبئة استنادًا إلى أرضية كتابية، لكنهم كان يوقنون بأن مستقبلهم في يد الله لا في أيديهم.
إن المؤمنين الأوائل لم يفسّروا الصمت الإلهي على أنه نوع من اللامبالاة الإلهية.
لقد صمّم المسيحيون على إيمانهم بأن الله لم يكن صامتًا يومًا ما. كان الله مبادرًا حينما أرسل يسوع لكي يفدينا من العذاب الأبدي، ونحن اليوم ننتظر الفداء المستقبلي حينما تُفتدي الخليقة في النهاية. هناك شيء ما ينتظرنا وهذا الشيء ينتظر اللهَ لكي يتحقّق بطريقة صحيحة. لقد عاشت البشرية حياة مثالية على كوكبنا يومًا ما، أما الآن فهي تعيش على كوكب معيب ببشاعة. لم يَعِد الله بأنه سيخلّصنا من شرور هذا العالم، بل وعدنا بإنقاذنا وتخليصنا للعالم الآتي.
بالنسبة للمؤمنين، كوفيد ١٩ ليس هو الكارثة الأخيرة، بل إن الموت نفسه ليس أعظم كارثة. حتى الموت جوعًا ليس هو الكارثة الكبرى كما سنرى لاحقًا. كتب الرسول بولس قائلًا: «لأَنَّ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح .. مَاتَ لأَجْلِنَا، حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا [عشنا] أَوْ نِمْنَا [متنا] نَحْيَا جَمِيعًا مَعَه» (١تسالونيكي ٥: ٩-١٠). فإن عشنا أو إن متنا فنحن رابحون.
الرياح والأمطار والبيت المتداعي
الأزمات تكشف معدن الشخصية.
إن الجوائح والأوبئة والكوارث الطبيعية كلها تجبرنا على اتخاذ القرارات. هل حقًا نحن نؤمن بالله، أم أننا نختار الشرود عنه باشمئزاز وغضب؟ للكوارث الطبيعيّة قدرة على التمييز بين البشر والنفاذ إلى منظومة القيم التي لنا، بل واختبار شخصياتنا. للكوارث طريقتها في فضح محبتنا السرية وقناعاتنا الشخصية، وما إذا كنا سنثبت في الإيمان بصلاح الله أم لا.
أخبرنا يسوع بقصة من قصص الكوارث الطبيعية التي حلّت بمنطقة ما كاشفة عن الحياة الداخلية لاثنين متجاورين:
«فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا، أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا، يُشَبَّهُ بِرَجُل جَاهِل، بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا!» (متّى ٧: ٢٤- ٢٧).
في اليوم المشمس الجميل يبدو للناظر أن هذيْن البيتيْن متماثلان، لكن الرياح القوية فقط هي ما يمكنها أن تفضح الفارق بين الاثنين. الكوارث توضِّح قيمنا، وتتحدى إيماننا، وتكشف حقيقتنا العارية. فإذا كنا ثابتين في مواعيد المسيح عندها يمكننا الصمود، أما إذا لم نكن كذلك فإننا ننجرف بعيدًا في فلسفاتنا وتفسيراتنا الضيقة.
بالنسبة لأولئك الذين يجدون أنفسهم بعيدين عن الله؛ الله كفكرة، الله كبناء أو كمنتجع نأوي إليه ونحتمي فيه في الشدائد، فالكوارث الطبيعية هي مجرد سبب آخر لعدم الإيمان به وبعنايته. أما بالنسبة لهؤلاء الذين وضعوا ثقتهم في كلمة الله التي تشهد لصاحبها، ووثقوا في مواعيده فإن إيمانهم سوف يثبت أمام هجمات الماضي والهجمات التي ستأتي. هل سنبني إيماننا على الرمل أم على الصخر؟
إذا لم تكن كوارث الطبيعة خادمةً في النهاية لمقاصد الله الصالحة فإننا نكون أمام إله من اثنين: إما إله ضعيف للغاية لا يمكنه استخدام الشر لخدمة مقاصده العليا، أو إله شرير للمنتهى بحيث لا يهتم بالصلاح ولا بالعدالة. نعم هناك خطر عظيم في التسلُّق لمعرفة ما هو أكثر من اللازم بخصوص مقاصد الله ولطلب الإجابات عن كل «لماذا» تواجهنا، لكن هناك بالمقابل خطر الصمت بإزاء الأمور التي أعلنها لنا الكتاب المقدس والتي تتناول تلك الحوادث المرعبة التي تحدث. إنني أؤمن من أعماقي أن الجوائح والكوارث الطبيعيّة لها رسالة لا نجرؤ على تجاهلها.
وحتى مع الصمت الظاهري لله يمكننا أن نثق أنه يهتم وأنه جدير بالتصديق. وكما سبق التأكيد؛ الله ليس صامتًا فلقد تكلّم إلينا في كلمته بلا تلعثم. فيما يلي من كتابات سأقدّم للقارئ العزيز ما أؤمن أن الله قد قاله لنا بالفعل بخصوص الجوائح والأوبئة والكوارث الطبيعيّة في هذا العالم، كما سأقدّم الاستجابة البشرية الصحيحة لما أعلنه الله القدير لنا. إنني لا أزعم أن ما أقوله هو إعلان خاص من الله لي، فقط أمسك بالكتاب المقدس في إحدى يديّ وبالعالم المتألم في اليد الأخرى.
لندع الله يتكلم إلى أذهاننا وقلوبنا.
[1] الكلمات بين القوسين [...] على طول الكتاب للمحرِّر في العربية.
[2] William H. McNeill, Plagues and People (New York: Anchor Books, 1976), 122.
[3] Quoted in Rodney Stark, Exploring the Religious Life (Baltimore: The Jones Hopkins University Press, 2004), 37.
[4] Timothy F. Lull, ed., Martin Luther’s Basic Theological Writings (Minneapolis: Augsburg Fortress Publishers, 1989), 744.
[5] Ibid., 742.
[6] See, e.g., Jenny Rose Spaudo, “Cindy Jacobs Calls Christians Across World to Pray against Coronavirus,” Charisma, March 7, 2020, http://www.charismamag.com/spirit/prayer/44610-cindy-jacobs-calls-christians-across-world-to-pray-against-coronavirus.
[7] T. B. Joshua. “Since yesterday, when the Lord brought the revelation about the rain and that this rain will wipe away the epidemic corona virus, “Facebook, March 2, 2020. http//www.facebook.com/tbjministries/posts/3028260480628041, and “CORONAVIRUS PROPHECY UPDATE,” Facebook, March 10, 2020, http//www.facebook.com/tbjministries/photos/a.105659106221541/3046000355520720/?-type=3&theater.