«في البدء كان الكلمة»
بقلم القس أِشرف بشاي
حينما سمع مسيحيّو الشرق الأوسط الحديثَ الذي يصف الْمَسِيح بأنّه «كلمةُ الله ورُوحٌ مِنه» لم يستغربوه، فالإنجيل أيضًا يُطلق على الْمَسِيح لقب الكلمة. وَرَدَ في افتتاحيّة بشارة يُوحَنَّا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْه» (يُوحَنَّا 1:1- 5).
إنَّ «الكلمة» هو الاسم الذي يُعطيه البشيرُ يُوحَنَّا للرّب يَسُوع الْمَسِيح. والحديث في مُقدِّمة إنجيل يُوحَنَّا يدور حول هذا الشخص «الكلمة» (بصيغة المُذكّر). كذلك هناك شخصٌ آخر يظهر في مقدِّمة الإنجيل هو يُوحَنَّا المعمدان. يظهر يُوحَنَّا المعمدان في هذا الجُزء من الإنجيل من حيثُ علاقته بالكلمة (لذا فإنّ أهميته ثانويّة). إنّ ما ورد عن يُوحَنَّا المعمدان هنا يعتبرُه الدّارسون جُملةً اعتراضيّة؛ فالْمَسِيح هو جَوْهرُ الرِّسالة المسيحيّة، وهو موضوعُ البِشارة، وهدفُ كتابة الإنجيل. ولقد كتب يوحنا إنجيله لكي نتعرّف على المسيح فنؤمن به. «وأما هذه -أي هذه الكلمات- فقد كُتبت لكي تؤمنوا أن يسوعَ هو المسيح، ولكي تكون لكم متى آمنتم به حياةٌ أبديّة» (يوحنا ٢٠: ٣١). ومن وُجهة نظر البشير يُوحَنَّا لا يصحّ أن يُقارَن المسيحُ بأحدٍ، كائن من كان. ولا يصحّ أن يُوضع أحدٌ بجواره: فالْمَسِيح نسيجٌ وحده – كما نقول نحنُ العرب.
في البدء كان الكلمة
وكان الكلمة عند الله
وكان الكلمة الله
هذه المقطوعة الشِعريّة ذات الجُمل الثلاث تحتوي على ثلاثة أوصاف مُتميزّة للمسيح وإن كانت مُرتبطة ببعضها البعض، وكُلُّ جُملة تعكس تقدُّمًا فكرّيًا منطقيّا عن الجُملة التي تسبقها. وتصف كُلُّ جُملة جَانِبًا من الجوانب المتعلِّقة بشخص الكلمة في علاقتِه بالكَوْن.
ويحمل مصطلح الكلمة (اللوجوس في اليُونانيّة)، من المعاني، ما هو أعمق من ترجمته العربيّة. فالكلمة هِيَ فكرة يُعبَّر عنها بعدد من الأصوات والحُروف، لكن بدُون «الفِكرة» أو «المفهوم الكَامِن وراء الكلمة» تصبح الكلمة بلا معنى. وبالمِثل، فاصطلاح اللوجوس يعني ضمنيًّا الإدراكَ الكَامِن وراء الفكرة بل يعني الفِكرةَ ذاتِها. يعني التعبيرَ القَابِل للنقل عن الفِكرة. هذا هو المفهوم الذي كان شَائِعًا في ذلك العصر عن اللوجوس في الفلسفات اليُونانيّة (لا سيّما الفلسفة الرواقيّة). إنَّ الكلمة هو شخص، وهُوَ العقلُ المُسيطر على الكون والموجود بكُل مكان، والحاكِم على كل الأمور مُعطيًّا لها معناها. إنّ مصطلح اللوجوس اليُونانيّ يُعبِّر عن الله بالذّات؛ لأنَّ الله هو العقل المدبِّر لوجود الكون كلِّه. فـ «بكلمة الربِّ صُنعتْ السماوات، وبنسمة فيه كُلُّ جُنودها» (مزمور 33: 6).
هل قصد يُوحَنَّا استخدام هذا المعنى الشَائِع للدلالة على ألوهيّة الْمَسِيح؟
لا شك أن يُوحَنَّا قد استخدم هذا المصطلح (اللوجوس) وهُوَ يعرف، تمامَ المعرفة، معناه في الأوساط اليُونانيّة. من الطبيعي أن يستخدم كُتّاب الأناجيل مُفردات العصر الذي عاشوا فيه لتوصيل رِسَالتِهم بلُغةٍ يفهمها الناس. على أنّنا ينبغي أن نفهم معنى كلمة اللوجوس بالطريقة التي أرادها يُوحَنَّا لنا. فيُوحَنَّا فَهِمَ هذا المصطلح -لا في ضَوْء الديانات الإغريقيّة القديمة فحسب- بل في ضَوء الشخص الذي يُشير إليه. هكذا جاء الإنجيلُ الرَّابِع (انجيل يُوحَنَّا) كنُقطة بِداية لفكرٍ جديد مُؤسَّس على الْمَسِيح المُقام ومُعبِّرٍ عنه بواسطة اصطلاح مُتداوَل.
هذه إذًا مُقدِّمة «لاهوتيّة» لشخص الْمَسِيح يفتتحُ بها يُوحَنَّا إنجيلَه. لقد أراد يُوحَنَّا -لا أن يُقدِّم لنا أحداث ولادة الْمَسِيح كما فَعَلَ زميلاه مَتّى ولُوقَا في بِشارتيهما – بل بالحري اختار أن يُؤكِّد في افتتاحيّةِ إنجيلِه أنَّ هذا الْمَسِيح، الذي عَرَفَه البشر كشخصيّةٍ تاريخيّة، هو الحَقُّ المُطلَق للكَوْن كلِّه.
ما الذي يقوله يُوحَنَّا هُنا عن الْمَسِيح إذًا؟!
- أزليّة الكلمة: «في البدء كان الكلمة». هذه هي أَوَّل صِفة ينسبُها يُوحَنَّا إلى الكلمة. وعبارة «في البدء» وإن شَابَهت في مظهرها ما ورد في التكوين 1:1 «في البدء خلق الله السماوات والأرض»، إلا أنّها، في جَوهرِها، تعودُ بنا إلى ماضٍ أبعد من نُقطةِ الخلق؛ إلى الماضي الذي لا بِدايةَ له، فلا يجوز لنا أن نقول إنَّ اللوجوس جاء إلى الوجود في وقت ما لأنَّه كان دائِمًا موجودًا.
- الكلمة شخص: «والكلمةُ كان عند الله». إنّ الكلمة «عند» لا تعنى الانفصال بين شخصيْن كما تُظهر لُغتُنا العربيّة، بل بالحري يُقصدُ بها عَلاقةُ الاختلاطِ الحُرّ بين أطرافٍ مُتكافئة. وقد وردت نفسُ هذه الكلمة عن أقارب يَسُوع حينما قال البعضُ باستغراب «أوَليستْ أَخواته هُهنا عندنا؟» (مرقس 6: 3). فاللوجوس إذًا ليس مُجرّد فكرة أو مبدأ بل هو شخص؛ شَخصٌ أزليٌّ حيٌّ، فَاعِل ومتفاعل.
- الكلمة إله: «وكان الكلمة الله». لقد امتلك اللوجوس طبيعةَ الله عَيْنها مُنذُ الأزل، ثُمَّ أُظهرت لنا هذه الطبيعة بتجسُّد الْمَسِيح في الزّمن. قال أحدُ القديسين مرّة: «لقد جعل الْمَسِيحُ الآبَ منظورًا للبشر». وقال آخر «إنَّ المسيح هو البصمة الصحيحة والكَامِلة لشخصيّة الله». المسيح هو الذي أجاب، بشخصِه وبأفعاله، عن السؤال: «ما الذي يُمكن أن يفعله الله لو أنَّه صار إنسانًا». أجاب يَسُوع وقال: «أنا معكم زمانًا هذه مُدّته ولم تعرفني يا فيلبُس؟! الذي رآني فقد رأى الآب» (14: 9). لقد تجسَّد الله اللوجوس في الْمَسِيح.
ينتقل يُوحَنَّا الآن من الحديث عن ألوهيّة الكلمة إلى الحديث عن «عمل» الكلمة، فيقول:
- وجود الكلمة عامِلًا: «هذا كان في البدء عند الله»: لقد كان اللوجوس مُشترِكًا مع الآب في خَلْقِ العالمين. تُظهِر لنا الجُملة التالية مزيدًا من النور إذ يقول يُوحَنَّا: «كُلُّ شيء به كان» (أيّ كُلُّ شيء به وُجِد». وهذه الكلمة «كُلّ شيء» هي كَلمة شَامِلة جَامِعة؛ فالكون بكُل عناصره ونواميسه وأنظمته تدخل ضمن إطار الأشياء المخلوقة بواسطة الكلمة (اللوجوس). وفي جُزء من ترنيمة قديمة كان الْمَسِيحيّون يرتِّلون قائلين: «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كولوسي 1: 16- 17). إنَّ الكلمة أزليّ، وما عداه فهو وقتيّ. الكلمة هو الخالق، وما عداه فهو مخلوق. لذا ففي عبادتهم، يردِّد الْمَسِيحيّون -على اختلاف طوائفهم- قانونَ الإيمان النيقاوي الذي يقولون فيه عن الْمَسِيح إنّه «مولودٌ غير مخلوق .. واحِدٌ مع الآب في الجَوهر». إنَّ العالم بكُلّ ما فيه يدين بوُجودِه واستمرارِه في الوُجود لشخص الكلمة: الْمَسِيح الخَالِق.
- الكلمة هو الحياة: «فيه كانت الحياة». تتكرَّر هذه الكلمة كثيرًا في بشارة يُوحَنَّا. والحياةُ لدى يُوحَنَّا ليست مُجرّد الوُجود الماديّ، بل هيَ حَياة الله. وحياة الله هِي الحياةُ الأبديّة الخَالِدة. هُنا نرى الحياة في ارتباطِها بمانِح الحياة؛ الله الكلمة اللوجوس هو وحده مَنْ يُقيم الموتى، ولقد منحَ المسيحُ الحياةَ للموتى. الله الكلمة اللوجوس هو الحياة.
- الكلمة هو النُّور: «الحياةُ كانت نُورَ الناس». إنَّ كلمة النُّور تَصِفُ تأثيرَ فِعْل الله اللوجوس في الكَوْن كلِّه. وكلمة «نور» في بشارة يُوحَنَّا تعني التجلّي الواضِح لقداسة الله وبرَّه (3: 19، 20، 21؛ 12: 35). هُنا نرى إشارةً لعمل الله اللوجوس في الكون الماديّ. فقد قال الله [ليكن نور، فكان نور» (تكوين 1: 3).
- تأثير الكلمة: «النور يُضيء في الظُلمة، والظُلمة لم تُدركه». إنّ حياةَ الله تظهر في العالم عن طريق اللوجوس، لكن البشر لم يكونوا مُستعدين لقُبول هذه الحياة. نعم لا يستطيع شرُّ الإنسان أن يطفئ الشمس، لكن الإنسان يستطيع -بكُلِّ تأكيد- أن يختار ألا يستفيد من وُجودِ الشمس! يُمكننا ترجمة هذه الكلمة «تدركه» أيضًا إلى «تغلبه»: فمهما بلغ ظُلم الإنسان لنفسه، ومهما قَسّى الإنسانُ قلبَه إلا أنَّ النور لا بُدَّ أن ينتصر في النهاية. هذا هو الفِكرُ الرَّئيس في بِشارة يُوحَنَّا؛ فعلى الرغم من استماتة الكراهية إلا أنَّ المحبَّة تنتصرُ أخيرًا، وبرغم سواد الظُلمة وقساوتها إلا أنَّ النور سيربحُ في النِهاية. ومهما افتعل الشّرُّ من مَعاركَ وحُروب، إلا أنَّ الغلبة النِهائيّة هيَ للوجوس، للكلمة الإلهيّ.
صديقي،
هل تقول إنّ هذا الكلام صعب؟ هكذا قال أيضًا بعضٌ من تلاميذ الْمَسِيح في بشارة يُوحَنَّا (6: 60). عندها قال الْمَسِيح لتلاميذه؛ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟» فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيح ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (6: 67- 68).
فهل تؤمن بالْمَسِيح؟
هل تقبل تجسُّدَه لأجلك؟
هل تحتمي في دمه الكريم؟
هل تتمتّع بشركة آلامه وفاعليّة قيامته؟
أقبل إلى الْمَسِيح. اقبله ربًّا لك واضمن فيه حياتك إلى الأبد.