في البدء كان الكلمة (٢-٢)
بقلم القس أشرف بشاي
رأينا في الدردشة ١ كيف يُلقّب المسيح بـ «الكلمة»، ومن الضروريّ أن نفهم معنى هذا اللقب في ضوء القرينة التاريخيّة لانتشاره كأحد ألقاب المسيح. وفي سبيلنا لفعل ذلك درسنا معنى هذا اللقب في الفلسفة اليونانيّة (التي سبقت كتابة الإنجيل) كما درسناه في بشارة يوحنّا في العهد الجديد.
يُطلق الإنجيل، إذًا، على الْمَسِيح لقب الكلمة. وَرَدَ في افتتاحيّة بشارة يُوحَنَّا «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْه» (يُوحَنَّا 1:1- 5). رأينا في السابق كينونة الكلمة وفعل الكلمة في خلق العالمين. نستكمل الآن حديثنا عن الكلمة حسب ما يخبرنا به مُعلِّمنا البشير يوحنّا:
- الكلمة الآتي: «كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَم» (1: 9). لقد كان يُوحَنَّا المعمدان وغيرُه من قديسي العهد القديم أنوارًا، أمّا اللوجوس فهو «النُّور». كان الأنبياءُ أنوارًا خَافِتة، أمّا المسيح - اللوجوس فهو النُّور الكَامِل والنِهائيّ. هذا هو النُّور الأصليّ والأصيل، أمّا من سبقه من أنبياء فقد كانوا أنوارًا باهتة. «أنا هو نورُ العالم» يقول الْمَسِيحُ الكلمة .. «من يتبعني فلا يمشي في الظُلمة، بل يكون له نورُ الحياة» (يُوحَنَّا 8: 12). لقد أرسل الله الأنبياءَ لينادوا البشر إلى الله ولكي يدعوهم إلى التوبة والرجوع عن الخطيّة. كانت رسالةُ الأنبياء رسالةً كاشفة لأنها أظهرت زيغان قلب الإنسان، وكشفت فسادَه وضياعَه وانحلالَه، لكن رسالة الأنبياء لم تكن «مُغيِّرة» إذ لم تستطع أن تعيد الإنسان إلى حياة الشركة مع الله. جاء المسيح ودفع عن الإنسان أُجرةَ خطاياه إذ مات من أجل الجميع على الصليب، وبهذا الموت قاد المسيحُ البشرَ من جديد إلى حياة الشركة مع الله القدوس. لذا نحن نُمجّد الله من كُل القلب: «شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا» (كولوسي ١: ١٢- ١٤).
- الكلمة الآتي إلى العالم: لا تُوجَد هُوّة يستحيل على النُّور عُبورَها .. لا يُوجَد ما يُمكن أن يفصِل بين الكلمة والعالم. لقد جاء العالم إلى حَيّز الوجود من خِلال الكلمة حينما قال الله قديمًا «كُن فكان»، وهذا هو الفارق بين الكلمة والعالم؛ الفَارِق بين الْمَسِيح وما عداه: إنَّ الكلمة «كان» أمّا العالم فقد «كُوِّن» بالمسيح. إنَّ الكلمة يسمو عن العالمين بما لا يُقاس. في إحدى التّرنيمات التي شدا بها المسيحيّون الأوائل قالوا إنّ المسيح:
«هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ. لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَات» (كولوسي ١: ١٥- ٢٠).
- الكلمة المرفوض: «لم يعرفه العالم». لم يُدرك مُعظمُ البشر هُويّةَ الْمَسِيح الكلمة، ولم يفهموا كيف يمكن أن يتجسَّد اللهُ في صُورةِ الإنسان. حتى تلاميذ الْمَسِيح لم يُظهروا فهْمًا عميقًا لأقوال الْمَسِيح، أو لشخصيته، أو لمعنى إرساليتِه. هكذا شَكَّل الجَهلُ أساسَ الصراع لأنَّ الإنسانَ عدوٌ لما يجهل. لقد رفض العالم ما لم يستطع فهمَه، وأَبغضَ ما لم يُمكنه معرفته! وفي حديثه عن هذا الرفض كتب الرسول بولس بالوحي الإلهيّ قائلا: «لأنَّهم لو عرفوا لما صلبوا ربَّ المجد» (١كورنثوس ٢: ٨).
- الكلمة ضامِن المؤمنين به: «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِه» (1: 12). لقد وُلد الْمَسِيح يهوديًا لكن غَالبيّة الشعبِ اليَهُوديّ لم تعرفه. إلى خَاصِته جاء. أيّ إلى شعبِه ورعايا مملكتِه جاء، لكن خاصتَه لم تقبله. فبينما قَبِلَ السَّامريّون الْمَسِيح، وبينما سأل اليُونانيّون فِيلُبُس قائِلين «يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع» (12: 20)، إلا أنَّ غالبيّة شعبِ اليَهُود رفضوه وازدروا به! لكن شكرًا لله لأنه مكتوب «وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أَمَامَه» (كولوسي ١: ٢١- ٢٢).
نعم لقد رفضه البعض، ومع ذلك، فقد قَبِلَه كثيرون من أُمم العالم المُختلفة. وبِمُوجب هذا القُبول صار لكُلِّ المُؤمنين به حَقُّ العُضويّة في عَائِلة الله المجيدة المُمتدّة في كُلِّ الأرض، وصار لكُلِّ مُؤمن بالْمَسِيح سُلطانُ الامتياز بالتمتُّع بالبِنوة لله. مجدًا لله .. مجدًا للمسيح الكلمة!
- الكلمة المتجسِّد: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (1: 14). هذا هو مِحورُ حديثِ يُوحَنَّا والهدفُ الكبير وراء حديثه عن الكلمة. ما الذي جَعَلَ اللهَ ظاهرًا للعالم ومعروفًا؟ التجسُّد. لقد تغيَّر الفِعل من «كان» إلى «صار» (الكلمةُ صارَ جسدًا» وهو أمر يدعو للدهشة، والتعجُّب، والاستغراب، والذهول! لم يتغيَّر الكلمة، ولم يَكُفّ بالتجسُّد عن أن يكون الله، بل بالحري عَبَّرَ عن نفسِه في هيئة شخص من لحمٍ ودمٍ خَاضِعًا -بإرادته- لحُدود الزّمان والمكان. أصبح الكلمةُ عُرضةً للمتاعب البشريّة كالجُوع والعطش والآلام. هكذا صار الكلمة مُنتميًا لجنسنا البشريّ بالإضافة إلى انتمائه لله. لقد اكتسب بوِلادته من العذراء القديسة مريم طبيعةً جَديدة ليَحُلَّ بيننا، أيّ «لينصِبَ خيمتَه وسطَ خيامنا». إنَّ الله غير المرئي وغير المحدود نزل إلينا في الْمَسِيح بالتجسُّد.
«ورأينا مجدَه»: لقد تأمّلنا جيّدًا فتأكَّدنا. لقد فَهِمنا المغزى من مجيئِه إلينا. فبفضلِ استعدادِ الْمَسِيح لأنْ يُفحَص ويُسأل، تَوافَرَ للبشر كُلُّ ما يمكن أن يُساعدَهم على الفَهْم والاقتناع والإيمان. لقد صارت معرفة يُوحَنَّا كَاتِب الإنجيل معرفة شخصيّة بالْمَسِيح بعد أن كانت معرفة فلسفيّة نظريّة؛ فلقد قدَّم الْمَسِيح له ولسائر التلاميذ ولنا إعلانًا شخصيّا عن هُويته وعن عمله لأجلنا، في الصليب والقيامة والصُّعود. وما كان مُمكنًا أن يموتَ الْمَسِيح لأجلنا إلا بعد أن يتأنّس فيصير في صورة البشر.
هل هناك محبّة يمكن أن تتفوّق على محبّة الله لنا في المسيح؟ أيوجد برهان أكثر من ذلك على سُمو محبته لنا؟ لقد أحبّنا رغم عدم استحقاقنا، بل لقد أحبّنا على عكس استحقاقنا؛ فنحن البشر لم نكن نستحق من الله سوى الدينونة والهلاك والازدراء الأبديّ، لكن محبّته – ومحبّته فقط- هي التي قادته إلى التضحيّة من أجلنا. لقد أعطانا الله أغلى ما يمتلك: أعطانا ابنه حبيبَه ومسرّةَ قلبه، ليموت على الصليب بدلًا عنّا.
كتب لنا الوحي قائلًا: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ المسيحُ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّة» (عبرانيين ٢: ١٤- ١٥). لماذا اشترك المسيح معنا في البشريّة؛ في اللحم والدم؟ لماذا «وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ؟ مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِد» (عبرانيين ٢: ١٠). لهذا «نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَة» ولهذا أيضًا «لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآب» (فيلبي ٢: ٩- ١١).
أخي القارئ الكريم،
أتوسّل إليك لأجل نفسك الخالدة التي ستعيش أبدًا،
لا تدع الفرصة تفوتك
لا تؤجِّل إيمانك بالمسيح ساعةً واحِدة
إنّ حياتك الأبديّة أكثر قيمة من أن تهدرها، قلا تضع ثقتك إلا فيمن يستحقها. لقد جاء المسيح إلى أرضنا لكي «يطلبَ ويُخلِّص ما قد هلك» (لوقا ١٠: ١٩). لم يأتِ ليدعونا إلى دين جديد، ولم يأتِ لكي يحاول أن يُصلح من طُرقنا القديمة، ولم يأتِ ليُهلك أنفس الناس. لم يأتِ لكي يرشدنا إلى الحقّ بل لكي يعرِّفنا بذاته أنه هو الحقّ. «أنا هو الطريق والحقّ والحياة، ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلا بي» (يوحنا ١٤: ٦). إنّه هو الهداية والرشاد والإرشاد. إنّه هو الحقُّ بالذات: لا شيء آخر ولا شخص غيره! إنه هو الحياة الأبديّة. «من آمن به ولو مات فسيحيا، وكلّ من كان حيّا وآمن به فلن يموت إلى الأبد» (يوحنا ١١: ٢٥). إنه يسألك كما سأل مريم ومرثا أختيّ لعازر: «أتؤمن بهذا؟» .. «أتؤمنين بهذا؟»
ليتني أستطيع أن أقنعك بقبول المسيح ربًّا ومخلّصًا، فتضمن في شخصه المعبود المبارك حياتَك وأبديتَك.