ارحم ابني
بقلم القس أشرف بشاي
حكى لي أحد أقرب أصدقائي عن مُعاناته الفكريّة والنفسيّة التي اجتاز بها يومَ أن اكتشف، هو وأسرتُه، أنَّ والدته، التي ما زالت في أوائل الخمسينيّات من العمر، تُعاني من مرض السرطان. ولما اكتشفوا هذه المصيبة كان المرض قد تغلغل بالفعل في جسد والدته النحيل، حتى وصل إلى مناطقَ كثيرة منه. كان المُصابُ جللًا والأمرُ خطيرًا، إذ سرعان ما ترك المرضُ اللعين آثارَه الكئيبة على جسد الأم، وامتدّت المُعاناة لتُصبح صراعًا مع أمر تدبير الأموال الباهظة التي تُطلب منهم لتأمين العلاج والمستشفى وأجر الطبيب. ومع المعاناة الجسديّة والماديّة كانت تتصاعد وتيرة المُعاناة الروحيّة ونطقت الألسنةُ أخيرًا بما اكتنزته القلوب: «لماذا يا رب؟ ولماذا في هذا السن المبكِّر للأم الرائعة؟ ولماذا نحن بالذات وهناك من الأبناء من لم يشب عن الطوق؟ لماذا ولماذا ولماذا ...». أسئلة كثيرة حائرة يتردّد صداها في الأجواء الحزينة بلا جدوى! كانت إحدى الأمنيات المستحيلة التي عبَّر عنها أفراد الأسرة مرارًا وتكرارًا: «آه يا ربّ، كم كنتُ أتمنّى لو سألتني قبل أن تسمح بالتجربة، لو خيّرتني لاخترتُ أن أحمل أنا المرض في جسدي بدل أمي». هذا النوع من الحب والوفاء بين أفراد الأسرة هو ما يجعل المرض أكثر قسوة على قسوته! وأشدَّ ألمًا من الآمه!
في هذا المقال أتناول معك أيها القارئ العزيز حادثة شفاء الرب يسوع للصبيّ المصروع. تلك الحادثة التي كتبها البشير متّى في الفصل ١٧ من بشارته:
«وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِيًا لَهُ وَقَائِلًا: «يَا سَيِّدُ، ارْحَمِ ابْني فَإِنَّهُ يُصْرَعُ وَيَتَأَلَّمُ شَدِيدًا، وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي النَّارِ وَكَثِيرًا فِي الْمَاءِ. وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ههُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (متّى ١٧: ١٤- ٢١).
هناك أربعة أشياء مُهمّة يُوردها لنا البشيرُ متّى في هذه الحادثة:
- الحالة المزرية: كان الغلام الذي نال الشفاء من المسيح مصابًا بالصرع، قال البشير عنه إنه كان «يُصرَّع ويتألَّم كثيرًا» والصرع، كما هو معروف لنا اليوم، هو المرض الذي يقف وراء التشنّج الذي يحدث للجسم بسبب خلل يصيب الإشارات الكهربائيّة داخل دماغ الإنسان. ومرض الصرع غالبًا ما يظهر في سن الطفولة أو الشيخوخة، لكن هذا لا يلغي إمكانية ظهورِه في أيّ مرحلة عمرية أُخرى. ويحدث غالبًا الخلط ما بين الصرع والتشنج، فالتشنج هو أحد أعراض مرض الصرع، في حين أنّ الصرع هو الاستعداد الذي يقوم به المخ لينتج الشحنات المفاجئة من الطاقة الكهربائية والتي بدورها تُؤثّر بإصابة وظائف المخ الأُخرى بالخلل. فإصابة شخص بنوبة تشنج واحدة لا تعني بالضرورة بأنّ الشخص يعاني من مرض الصرع، فالإصابة بالتشنج مرّة واحدة قد تحدث لأسباب متنوعة، مثل تعرُّض الرأس لإصابة شديدة، أو ارتفاع درجة الحرارة، أو نقص الأكسجين. في حين أنّ الصرع هو عبارة عن إصابة مستمرة تؤثّر على الأجهزة الحسّاسة في المخ، ممّا يُنتج اختلالًا في النشاط الكهربائي والإصابة بنوبات التشنج المُتكرّرة. ومرض الصرع قد يكون وراثيًا أو جينيًا، وقد يكون لسبب خلل تصيب الدماغ. وفي ذلك الزمان البعيد لم يكن الناس يعرفون لهذا المرض تشخيصًا ولا علاجًا، ممّا زاد من مُعاناة المرضى بسبب فُقدان الرجاء في التعافي ونوال الشفاء. فبسبب هذا المرض كان الصبي يقع في النار ثم في الماء مرّات كثيرة، وكان هذا الأمر يضاعف من آلام الصبي، ويزيد من احتمال موته في إحدى هذه النوبات. مسكين هذا الصبي! مسكين فعلًا!
- مُحاولات الأب المحبّ: يقينًا حاول الأبُ أن يلتمسَ الدواءَ والعلاجَ عند أطباء كثيرين، لكن بالأسف فشلت كل مساعيه. ويقينًا كان الأب يحرم نفسَه من أيِّ شيء، وكلّ شيء، بغرض توفير المال اللازم للأطباء والعلاج. لكن كانت تلك تضحيات بلا جدوى! أخيرًا ظهرت بارقةُ أملٍ جديد؛ فلقد سمع الأب عن قافلة المُبشرين الذين يجتازون البلاد كارزين بملكوت الله. ولا شك أنّ الأب سمع عن المسيح؛ القائد الروحيّ لهذه القافلة، لكنه إذ لم يستطع أن يصل إلى المسيح ارتأى في نفسه أن يطلب من تلاميذ المسيح أن يساعدوه. فماذا حدث؟ يقول الرجل للمسيح: «وَأَحْضَرْتُهُ إِلَى تَلاَمِيذِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَشْفُوهُ» (آية ١٦). يا للخسارة! يا للأسف: لقد ضاع الأملُ الأخير في نوال الشفاء، وصارت الحالةُ ميئوسًا منها بالتمام!
- المجيء للمسيح: وفي غمرة الإحساس بالفشل والضياع واليأس، جاء الرجل إلى المسيح نفسه .. جاء جاثيًا أمامَه بكل توسُّل، وخُضوع، وبإحساسٍ كامل بالاحتياج والضعف، طالبًا منه أن «ارحم ابني» فإنّه «يُصرع كثيرًا ويتألَم» ويُلقى في النار والماء ممّا يتسبّب في اقترابه من الموت! أخيرًا، وبرغم المُعاناة اتّخذ الرجل الخُطوة الصحيحة إذ جاء إلى يسوع.
قبل أن أستكمل الحديث عزيزي القارئ اسمح لي أن أسألك: هل أنت في أمّسَ العوز والاحتياج لنوال الشفاء لأحد أحبائك؟ ابن أو ابنة؟ أخيك أو أختِك؟ والدك أو والدتك؟ صديق أو قريب؟ إذًا لماذا لا تصلي من أجله؟ تعال به أمام المسيح كما فعل هذا الرجل إذ جاء بابنه، فالمسيح هو الطبيب العظيم، الذي وحده يستطيع أن يأمر بالشفاء. إن كلمة واحدة فقط تخرج من فمه كفيلةٌ جدًا بضمان التعافي والشفاء إذ هو ربّ الأرواح والأجساد أيضًا.
- سلطان المسيح على المرض: هنا تجاوب السيد مع احتياج الرجل المسكين. قال المسيح معاتبًا: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، الْمُلْتَوِي، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ ههُنَا!» فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَة». يبدو أن ردود أفعال الناس على وجود المسيح بينهم لم تكن ردودًا إيجابيّة بالقدر الكافي، ممّا دعا المسيح إلى توجيه اللوم إلى ذلك الجيل الذي عاين أمجاد تجسُّد المسيح بشرًا، وشاهد المعجزات العظيمة، وتلامس مع الحياة الكاملة النقية المعصومة، لكنه بالأسف لم يستثمر الفرصة، وأكثر أبناء هذا الجيل لم يتوبوا!
لقد انتهر المسيح هذا الجيل، لكنه –في نفس الوقت- أظهر التعاطف الكامل لهذا الأب الملتاع بسبب مرض ابنه. قدَّم المسيح شفاءً كاملًا للصبي، فياله من مخلِّص ويا له من محب!
يقول البشير متّى: «فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَة». يُفرّق العهد الجديد بوضوح بين «الأمراض العصبيّة» (مثل الجنون والصرع وغيرها) من جانب، وبين سُكنى الشياطين من جانب آخر. والمسيح له كل المجد شفى كلا النوعيْن من الأمراض. لستُ في حاجة للدخول في جدل حول موضوع: «هل يمكن أن تلبس الأرواحُ الشريرة أجسادَ الناس؟» فيرد آخرون: «ولما لا، طالما أنّنا نؤمن أن الروح القدس يمكن أن يسكن في الإنسان المؤمن، فلماذا لا يسكن الروح الشرير في أجساد غير المؤمنين؟ هل هناك دليل ينفي سُكنى إبليس الشرير في الأشرار الذين يتلذّذون بالقتل وقطع الرؤوس واللهو بها في الشوارع كأنها كرة القدم؟!» على أيّ حال، أنا أؤمن أن الشيطان ليس جنتلمان، وأنه لن يكتفي من الإنسان بامتلاك ذهنه فيحرمه بذلك من فهم الحق الخاص بالمسيح المُخلِّص، بل إن أشرارًا كثيرين وقتلة وسافكي دماء أعربوا في لحظات القبض عليهم عن ندمهم، وعن يأسهم العميق من أنفسهم، لأنهم «سلِّموا أنفسهم للشيطان»، فأقدموا على ارتكاب جرائِمِهم دون أن يطرف لهم جَفن!
- هنا تقدَّم تلاميذُ المسيح وسألوا سيدَهم عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ. فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ، وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ. وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». نعم إنّ الايمان بالمسيح هو التعبير البشريّ عن الثقة في شخصه الكريم المبارك، والصلاة هي طلب تدخُّله الإلهيّ للحُصول على الشفاء. إنّه الله القادر على كل شيء، وهو وحده طبيب القلوب والأجساد. إنه لا يشفي من الأمراض الجسدية فقط، بل يشفي أيضًا من الأمراض الروحيّة، ويُعالج داء الخطيّة، ويضمن الحياة الأبدية. فقط أن نحن وضعنا ثقتنا فيه وجئنا إليه بأمراضِنا، إن حملنا إليه أقرباءنا وأصدقاءنا، فسُرورُه هو في التجاوُب معنا، وفي الرثاء لحالنا، إذ «فيما هو قد تألم مجرَّبًا يقدر أن يعين المُجرّبين» (العبرانيين ٤: ١٤)؟
تعال إلى المسيح. تعال إليه واثقا فيه،
هو ينتظرك ليباركك وليشفي كل من تأتي بهم إليه.