من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا
تأليف
ريتشارد بوكهام
ترجمة
أشرف بشاي
إنّ العقيدة المسيحيّة اعتادت على التمييز تقليديًّا بين اثنين من الموضوعات: شخص المسيح، وعمل المسيح. ومع أنّ الموضوعين يرتبطان، بالطّبع، معًا بشكلٍ وثيق إلا أنّنا يُمكن أن نستفيد من هذا التمييز عندما ندرس -في هذا الفصل - موضوع مكانة يسُوع المسيح في سفر الرُؤيا، وحينما ندرس في الفصل اللاحق كيفيّة فهم سفر الرُؤيا لما أنجزه يسُوعُ المسيح في تكوين ملكوت الله على الأرض.
الأوّل والآخر
تبدأ رُؤيا يُوحنّا بإعلان ألوهيّة يسُوع المسيح؛ فالمسيح القائم من بين الأموات يظهر كشخص سماويّ ممجّد (1: 12-16) ويُعلن عن هًويّة يسُوع على النحو التالي: «فلمّا رأيتُهُ سقطتُ عند رجليه كميّتٍ، فوضع يدهُ اليُمنى عليّ قائلًا لي: «لا تخف، أنا هُو الأوّلُ والآخرُ، والحيُّ. وكُنتُ ميتًا، وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين! آمين. ولي مفاتيحُ الهاويّة والموت» (1: 17-18). في الفصل السّابق لاحظنا إعلان المسيح عن نفسه حين قال: «أنا هُو الألفُ والياءُ، البـداية والنهاية» (1: 8)، وهناك -على طول السفر- إعلانان يختّصان بالله الآب وإعلانان يختّصان بشخص المسيح.
الله الآب: «أنا هُو الألفُ والياءُ، البـداية والنهاية» (1: 8).
يسُوع المسيح: «أنا هُو الأوّلُ والآخرُ» (1: 17).
الله الآب: «قد تمّ! أنا هُو الألفُ والياءُ، البداية والنهاية» (21: 6).
يسُوع المسيح: «أنا الألفُ والياءُ، البداية والنهاية، الأوّلُ والآخرُ» (22: 13).
إنّ الدّراسة العميقة لهذا النموذج تكشف الجهد الكبير الّذي يُوليه سفرُ الرُؤيا لتحديد المكانة التي يتمتّع بها يسُوع المسيح مع الآب. وكما رأينا الألقاب «الألف والياء، البداية والنهاية» تُستخدم لوصف الآب ولتصف سرمديّة الله في علاقته بالعالم، كون وجوده يسبق كُلّ الموجودات ويُنشئها باعتباره الخالق، وهو الإله الّذي سيجلب كُلّ الأشياء إلى التحقيق (الاكتمال) الاسخاتولوجيّ، فإنّ هذه الألقاب لا يُمكن أن تُعطي أيّة معانٍ أُخرى حينما نطبّقها على المسيح عندما نقرأ الآية 22: 13. ومع أنّه قد يبدو -في بداية الأمر- أنّ الله والمسيح مُتمايزان ومُنفصلان أحدهما عن الآخر، إلا أنّه من خلال هذين الإعلانين الواردين في 1: 8، 1: 17 ثُمّ في 22: 13 أنّ نفس الأوصاف التي تصف الآب هي بذاتها التي تصف المسيح (الأوّلُ والآخرُ) إذ يبدو واضحًا أنّ هناك توازي بين هذه الثلاثيّات من الأوصاف التي تصف الآب والمسيح. وعلاوةً على ذلك فإنّ «الأوّلُ والآخرُ» هُما زوجا الأوصاف اللذان يُوصف بهما الله في إعلانه الإلهيّ عن نفسه في سفر إشعياء الثاني (44: 6؛ 48: 12). ومع الأهميّة القُصوى التي يتمتّع بها هذان الوصفان في سفر الرُؤيا لكن سيكون أمرًا غريبًا جدًّا لو كان أحدُ هذين الوصفين مُختلفًا في معناه عن المعنى الّذي يحمله سفر الرُؤيا.
وقد ثار الجدل في بعض الأحيان حول الادّعاء باختلاف المعنيين إذ أنّ سياق الجُزء الأوّل من رُؤيا يُوحنّا يُعالج موضوع علاقة الرّبّ يسُوع مع الكنائس السّبع وارتباط ذلك بقيامته من الأموات في 1: 17- 18 وكذا تكرار الحديث عن القيامة في 2: 8. من المُمكن أن تُفهم هذه الإشارات على أنّها إشارات إلى المسيح المُقام لا إلى كونه «الأوّل والآخر» في علاقته بالكنيسة باعتباره «بكر من الأموات» (1: 5)؛ فالمسيح القائم من بين الأموات هو أصل وأساس الكنيسة وفي ظهوره ثانية سوف «يملأ» الكنيسة. ومع ذلك، فليست هذه القراءة هي القراءة الوحيدة للآيات 1: 17- 18 إذ أن بداية الإعلان هي التأكيد على مشاركة المسيح في الوجود الأبديّ لله؛ أصل ومنتهى كُلّ الأشياء (أنا الأول والآخر). وفي الواقع يواصل الرّائي حديثه بعد ذلك مؤكّدًا على وجه الخصوص -وبطريقة فائقة للتصوُّر- أنّ المسيح هو «الحيّ» (1: 18) الّذي يشارك الله (الآب) حياته الأبديّة في الوقت الّذي قيل فيه عن الله إنّه «الكائنُ والّذي كان والّذي يأتي» (1: 8) إذ هو أيضًا «الحيّ إلى أبد الآبدين» (4: 9- 10؛ 10: 6؛ 15: 7). يقول المسيح: «وكُنتُ ميتًا، وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين! آمين» (1: 8). لقد قوطعت/انقطعت interrupted حياتُه الأبديّة بسبب اختباره للموت البشريّ أمّا هو فقد شارك البشر الحياة الأبديّة التي لله من خلال انتصاره على الموت. لذا ففي حين أنّ إعلان المسيح عن ذاته في 1: 8 يبيّن لنا سيادته الإلهيّة فوق كُلّ شيء فإنّ الإعلان المُوازي في 1: 18 يُصوّر لنا مشاركة المسيح في السّيادة على الموت والهاوية، وهذه السّيادة اكتسبها المسيح من خلال موته وقيامته «ولي مفاتيحُ الهاويّة والموت».
إن هذه العبارة «الأوّلُ والآخرُ» التي تُقتبس من سفر إشعياء الثاني تُستخدم أيضًا في 22: 13. وهي تُستخدم هنا بطريقة حُلوة تجعل من تفسيرنا لما ورد في 1: 17- 18 تفسيرًا مُميّزًا. فالإشارة إلى مُشاركة المسيح لشخص الله في عمليّة الخلق ليست خارجة عن سياق إرسال الخطابات السّبعة إلى الكنائس السّبع، وهذا واضحٌ تمامًا في 3: 14 في افتتاحيّة الرّسالة إلى كنيسة لاودكيّة حيث يخلع الرّائي على المسيح لقب «بداءةُ -أي أصل Arche -خليقة الله». ليس معنى هذا أنّ المسيح هو أوّلُ المخلوقات التي خلقها الله، وليس معناه أنّ المسيح -بقيامته- صار أوّل الخليقة الجديدة التي سيخلقها الله، إذ من الواجب واللازم أن يكون المقصود بهذا اللقب مُتوافقًا مع ما ورد في الجُزء الأوّل من الآية: «البداية arche والنهاية» بنفس المعنى الّذي نفهمه حينما ترد هذه العبارة في وصف الله في 21: 6 والمسيح في 22: 13. لقد سبق حضور/وجود المسيح كُلّ الأشياء باعتباره المصدر لها (لا باعتباره أوّلها زمنيًّا) على أساس مشاركته لله (الآب) في عمليّة الخلق. إنّ سفر الرُؤيا يتّحد مع الكتابات البُولُسيّة في هذه الفكرة (كورنثوس الأولى 8: 6؛ كولوسّي 1: 15- 18)، ومع الرّسالة إلى العبرانيين (1: 2)، ومع إنجيل يُوحنّا (1: 1- 3). إنّ هذا الإيمان يترسّخ نتيجة الصّورة التي تُرسم للمسيح باعتباره كلمة الله وحكمة الله التي من خلالها خلق اللهُ العالم. والإيمان بالمسيح باعتباره الخالق يُمكن أن يُرى واضحًا في ضوء دور المسيح في عمليّة الخلق؛ هذا الدّور الّذي نقرأ عنه خارج سفر الرُؤيا والّذي يمكن لنا فهم كُلّ جوانبه وأبعاده عند التئام الشّواهد الكتابيّة جنبًا إلى جنب.[1] كذلك ففي فكر الكنيسة الباكرة المُتعلّق بالكرستولوجيّ فإن الظّهور الأخير لله سيرافق مجيء يسُوع المسيح ثانية. وحينما نفهم الفكرتين معًا فهمًا راسخًا ومُتداخلًا يُمكننا أن نستنتج أن المسيح كان بمثابة «الوكيل الإلهيّ» في عمليّة خلق العالم، وأيضًا سيكون كذلك في التحقيق الاسخاتولوجيّ الأخير والنهائيّ الّذي سيصنعه الله. لذا فإنّ المسيح هو: «الألفُ والياءُ، البداية والنهاية، الأوّلُ والآخرُ» (22: 13). وبطريقةٍ لا لبس فيها ولا غموض، يُمكننا أن نُقرّر أنّ يسُوع المسيح يمتلك الكينونة/الوجود الأبديّ الّذي يملكه الله، وهذه العقيدة تتفوّق وتسمو على أيّ شيء آخر في العهد الجديد.
يمكن تعزيز هذا الفكر حينما نُعيدُ النظر مُجدّدًا إلى هذا النموذج الّذي ترسمه هذه المقاطع الكتابيّة الأربعة (1: 8، 17؛ 21: 6؛ 22: 13) تلك المقاطع الأربعة التي تستخدم هذه الأزواج الثلاثة من الألقاب التي تخصّ الله والمسيح. وبخصوص هيكل/تقسيم كتاب رُؤيا يُوحنّا (1: 9- 22: 9)، يُمكننا أن نرى: المُقدّمة (1: 1- 8)، والخاتمة (22: 6- 21 حيث يتداخل معًا نهاية سفر الرُؤيا مع بداية الخاتمة ولذا فإنّ 22: 6 -9 هي آيات يُمكن أن تكون جُزءًا من كليهما)، وهناك مجموعة من السّمات الأدبيّة التي تجعل المُقدّمة والخاتمة تتوافقان معًا. إنّ التعريف الّذاتيّ الّذي يُقدّمه المسيح عن نفسه في بداية خاتمة الكتاب هو أحد هذه السّمات الأدبيّة (22: 13). وهاتين الآيتين تتوافقان بالأكثر مع كُل تفاصيل الإعلان السّابق والخاص بقُرب ظهور المسيح «هُوذا يأتي مع السّحاب» (1: 7) وأيضًا «وها أنا آتي سريعًا» (22: 12). فإذا كانت الآيتين 1: 8، 22: 7 تتوافقان بهذه الصّورة فإنّ 1: 17، 21: 6 قد كُتبتا بشكلٍ مقصود ومُتوافق في بداية وخاتمة سفر الرُؤيا حتى تكون هذه الفقرات الكتابيّة الأربع مكتوبة «على شكل صليب chiastic» (أ. ب. ب. أ). علاوةً على ذلك، هناك تشابهٌ واضح بين 1: 17، 21: 6 حيث إنّ شخصًا واحدًا فيهما هو من يُعلن عن نفسه بالقول: «أنا هو الأوّل والآخر» أو «الألف والياء» كما ويُعلن عن نفسه أيضًا أنّه هو مصدر الحياة الاسخاتولوجيّة الجديدة. إنّه شخص المسيح من خلال قيامته (1: 8)، الله الّذي يخلق الكُلّ جديدًا ويُعطي «الماء الحيّ» (21: 1- 6). يُمكن لنا أن نرسم هذا الشّكل الصّليبيّ كالآتي:
أ ب ب1 أ1
1: 8 1: 17 21: 6 22: 13
نهاية مُقدّمة الكتاب بداية الرُؤيا نهاية الرُؤيا بداية خاتمة الكتاب
الله هو الألف والياء المسيح هو الأوّل والآخر - الله هو الألف والياء المسيح الألف والياء
الله هو البداية والنهاية المسيح هو الأوّل والآخر البداية والنهاية
مرتبطًا بالظّهور مرتبطًا بالحياة الجديدة مرتبطًا بالحياة الجديدة مرتبطًا بالظّهور
1: 7 1: 18 21: 3-5 22: 12
إنّ هذا النموذج يُؤكّد هُويّة المسيح مع/في الله؛ إذ يستخدم الرّائي نفس الألقاب للتعبير عن كليهما (الله والمسيح). وكما نرى، فهذه الألقاب تبيّن التوجُّه الاسخاتولوجي الّذي يُقلق (يهتم به) يُوحنّا الرّائي. فبظهور المسيح سوف يكون الله -الّذي كان بداية ومصدر وخالق كُلّ الأشياء- هو مآل ونهاية كل شيء. هذه هي الحياة الاسخاتولوجية التي دخلها/دشّنها المسيح بقيامته والتي ستشارك فيها كل الخليقة المفتدية لتحيا الدّهر الجديد. أمّا إذا كان المظهر الاسخاتولوجيّ الّذي تظهره هذه التسميات الإلهيّة التي يشترك فيها الله والمسيح-والتي يهتم الرّائي بذكرها هُنا – فالمظهر الأوّلي/الأساسيّ هو بذاته الاهتمام الاسخاتولوجيّ. إنّ هذه الألقاب تُظهر لنا أنّ التسميات التي أطلقها الرّائي على الله وعلى المسيح ليست مجرّد نتيجة لتبنّي فكرًا اسخاتولوجيًّا مُعيّنًا قضى بأن يسُوع الإنسان قد تمّ تعظيمه وتمجيده ليكون إلهًا بسبب قيامته من بين الأموات. إذ على نفس الدّرجة من أهميّة القيامة تأتي هذه التسميات الإلهيّة التي تُبيّن لنا حقيقة مشاركة المسيح في ربوبيّة الّذات الإلهيّة (قارن 2: 28 مع 3: 21). إنّ هذه التسميات التي يشترك فيها المسيح مع الله تبيّن أنّهما يتشاركان معًا في الكينونة/الوجود الأبديّ قبل بدء الخلائق والأكوان.
أمّا في سفر إشعياء الثاني فإنّ التسمية «الأوّل والآخر» تتصل اتّصالًا وثيقًا مع سمة التوحيد الحصريّ التي تُميّز رسالة هذا السفر. يقول الله: «أنا الأوّلُ وأنا الآخرُ، ولا إله غيري» (44: 6). لذا فمن الأروع أن نلاحظ أنّ المسيح يختّص ذاته بهذا اللقب وينسبه لنفسه في رُؤيا 1: 17. هذا ليس معناه بالمرّة أنّ المسيح قد صار إلها ثانيًا/آخر، بل بالأحرى معناه أن المسيح قد صار مشمولًا في ذات كينونة الله ووجوده الأبديّ؛ الله إله إسرائيل الّذي هو مصدر ومآل كُلّ شيء. سوف نرى في بقيّة هذا الكتاب كيف كان يُوحنّا الرّائي-وهو يُقدّم المسيح الكائن في ذات جوهر الله- مُهتمًّا بالحفاظ على عقيدة التوحيد اليهُوديّ وحريصًا عليها، في نفس الوقت.
[1] See J. D. G. Dunn، Christology in the Making (London: S C M Press، 1980)، chapters vi -vii; J. F. Balchin، 'Paul، Wisdom and Christ'، in H. H. Rowdon، ed.، Christ the Lord: Studies in Christology presented to Donald Guthrie (Leicester: Inter-Varsity Press، 1982)، 204 19.