بقلم القس أشرف بشاي
رغم كل ما تعرّض له الكتاب المُقدّس من حركاتٍ للنقد عبر ما يقرُب من ألفيّ عام، ورغم سهام التّشكيك الملتهبة الّتي لم تهدأ يومًا فإنّ هذه أسفاره استمرّت وعاشت، بل لقد أثبتت أنّها أقوى من كل الحروب والسّهام والمعاول الّتي حاولت جاهدةً هدمها واجتثاثها.
ويُمكننا القول إنّ المسيحيّين اليوم مدينون -في جزءٍ كبيرٍ من قناعاتهم بسُمُو وعِصمة هذه الأسفار- لهؤلاء العلماء المتشكّكين الّذين أثاروا الشّبهات حول الكتاب المقدّس؛ فلولا اعتراضاتهم وشُكوكهم لما وجد الدّارسون المسيحيّون التحدّي للبحث والدّراسة، من أجل الوُصول إلى فهم أفضل لكتابهم، ولا اكتشفوا الأدلّة الكثيرة الّتي تُثبت عِصمة هذه الكلمة الإلهيّة، ولا غاصوا في أعماق الله وسرائره الّتي أعلنها لنا برُوحه عبر كلمته المُقدّسة.
وعبر تاريخ الكنيسة لم يحدث أن مسيحيًا واحدًا أنكر على الكتاب المقدّس قوّتَه وتأثيرَه؛ بل حتى أصحاب «التّعليم المزيّف» الذي يُنكر العِصمة نادوا بأن الكتاب المُقدّس «يحتوي» على كلمة الله، كما اعتبروا أن تعليمهم }«يستجلب تعلُّقًا أوثق بالمسيح» إذ أن الكتاب المُقدّس ما هو إلّا مُجرّد «علامات المرور الإرشاديّة التّي تساعد المسافر على الطّريق»، ويُمكن أن يتم الإشادة به على أنه «كتاب إلهي استثنائي». لكن لا يمكن أن يكون هو الكلمة الأخيرة، لأن المسيحيّين يملكون شيئًا أفضل وأعظم من العلامات الإرشاديّة، فهم لديهم المسيح كمُرشدٍ حي! ومع ذلك يُمكن العُثور على الكثير من المساعدة في الكتاب المُقدّس، والإيمان المسيحي يستند إلى اختبار شخصيٍّ للمسيح، وليس في نص كتاب!
وصحيحٌ أنّ واحدًا من أسرار قوّة الكلمة الإلهيّة المكتوبة وتأثيرها هو أنّها تشهد شهادةً واضحة للكلمة المتجسّد؛ يَسُوع المسيح. لكن ليس معنى هذا أن يدُق أولئك إسفينًا بين الله وكلمته، أو بين الكلمة المتجسّد والكلمة المكتوبة كما حدث في الآونة الأخيرة في مصر. فقد حلا لبعض الدارسين في بلادنا أن يفعلوا ذلك، وكانت حُجّتهم أنّ («الله أكبر من الكتاب المُقدّس»، وأنّ «الكلمة المتجسّد أعظم من الكلمة المكتوبة بما لا يُقاس»، وبالتالي فلا تُوجد مشكلة لو تنازلنا قليلًا في أمر عِصمة الكِتَاب المقدّس، لأنّ «علاقة المسيحيّ مع إلهه هي علاقة مع شخصٍ حي وليست مع أسفار جامدة!») ونحن نتساءل باندهاش: لماذا يدّق أولئك الدّارسون ذلك الإسفين بين الكلمة المتجسّد والكلمة المكتوبة الّتي تشهد له؟! ما مقدار النّور الرّوحي الّذي يمكن أن يحصل عليه المرء بعيدًا عن الكتاب المقدّس؟ ما حجم معرفة المسيح الّتي يمكن أن ينالها الإنسان من المصادر التّاريخيّة الأخرى بعيدًا عن الأسفار المقدّسة؟! ما أضعف النمو الرّوحيّ الّذي يُحصّله أصحاب هذا الفكر، وما أقلّ المعرفة الصحيحة الّتي ينالونها حينما يقلّلون من أهميّة الكتاب المقدّس في معرفة الله والمسيح! عند قراءة هذا الكتاب ستتيقّن أنك «لا يُمكنك أن تحصل على الله بمعزل عن كلمته، ولا أن تحصل على كلمة الله بمعزل عنه هو شخصيًا. إن الله إلهٌ متكلّم، والكلمة هي كلام الله». إن الله لا يريد أن يَهبَنا الحياة الأبدية فقط، بل بالأكثر يريد إقامة علاقة صحيحة ونامية باستمرار بيننا وبينه، فالأمر الإلهي لنا: «اُنموا في النعمة وفي معرفة ربّنا ومخلصنا يَسُوع المسيح» (بُطرس الثّانية ٣: ١٨)، ولا يوجد نُمو في معرفة الله ومسيحه بعيدًا عن الكلمة.
وعليه، يؤمن المسيحيّون «المحافظون» أنّ الكُتب المُقدّسة الواردة في العهديْن القديم والجديد هي (بذاتها) كلمةُ الله الحيّة المعصومة للإيمان والأعمال، وأن الكِتاب المُقدّس صحيح في كل ما يُؤكّده؛ سواء كانت هذه التأكيدات عقائديّة، أو أخلاقيّة، أو تاريخيّة، أو علميّة. ويتّفقون -رغم اختلافهم في أشياء أخرى كثيرة- على أنّ التشكيك في الكتاب المقدّس هو المُقدّمة المعتادة للتشكيك في ذات الله وفي صفاته وفي أعماله، إذ أن وجود الله ومحبته وصلاحه من جانب، وعِصمة كلمته المقدّسة من جانب ثانٍ يدوران معًا وجودًا وعدمًا، يثبتان معًا أو يسقطان معًا. كذلك فإن التشكيك في صِحّة الكتاب المقدّس يعني -ضمن ما يعني- التشكيك في المسيح ذاته: التشكيك في ميلاده العذراوي الفوقطبيعي، وفي معجزاته الإلهيّة العظيمة الّتي لا مثيل لها، وفي حياته الطاهرة الخالية من كل دنس وشر، وفي تعاليمه التي لم تسمع آذان البشريّة نظيرًا لها، وفوق الكل التشكيك في قيامته المجيدة التي من خلالها «تعيّن ابن الله بقوّة من جهة روح القداسة بالقِيَامةِ من الأمواتِ؛ يَسُوع المسيح ربّنا» (رُوميَة ١: ٤). والإيمان بهذه العقائد هو جوهر المسيحيّة، وهو -في نفس الوقت- سرّ تأثير الكتاب المُقدّس وسلطانه وفاعليّته. إن الكتاب يشهد لهذا التّدخل الإلهيّ في التّاريخ، من خلال مجيء المسيح إلى أرضنا مُتجسّدًا، ومن خلال صَلبِه وقيامته وصُعوده ثانية إلى السّماء ليكون «رأسًا فوق كل رياسةٍ وسلطانٍ وقوّة وسيادةٍ، وكلّ اسمٍ يُسمّى ليس في هذا الدّهر فقط بل في المستقبل أيضًا، إذ أخضعَ -الآبُ- كلَّ شيء تحت قدميْه، وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة، الّتي هي جسده، ملء الّذي يملأ الكلّ في الكلّ» (أفسُس 1: 21-23).