من كتاب الكلمة المعصومة - المحرّر العام جون ماكآرثر
بقلم: كيفن ديونج Kevin DeYoung
إذا قُدّر لك أن تدخل منزلنا من خلال المرآب (الجراج) ثم التفتَ إلى أوّل باب على يسارك، فسوف تجد غُرفة صغيرة نُسمّيها الوكر. في مقابل الجدار البعيد في وكرنا هذا، سوف تجد الأريكة البُنيّة، وهي أريكة مُميّزة جدًا. إنّها مُميّزة لأنّني كوّنتُها كُلّها بنفسي دُون الاستعانة بأيّ شيء أكثر من مجموعة من التّعليمات المرسومة ومفتاح ربط وَاحِد. فهي أريكة من نوع «آيكيا». ولا شكّ أن بعض القُرّاء على دِراية بالمُنتجات المنزليّة الجميلة الّتي يصنعها أصدقاؤنا السّويديّون الرّائعون في «آيكيا».
وقد جاءت هذه الأريكة في أربعة صناديق ضخمة ملأت بيتَنا بالكامل. وقد تضمّنت تعليماتُ التّركيب العشرات من الصّور دُون جُملة واحدة في أي لُغة. لا شيء سوى رُسومات لبعض التّفاصيل الفنيّة والأوتاد الخشبيّة الّتي تربط قِطع مُتناثرة من أجزاء الأريكة.
وبسبب عدم خبرتي، بدأتُ هذا المشروع في حوالي العاشرة من مساء أحد الأيام! فعندما كان جميع من في المنزل نائمين وقفت أنا هناك، محدّقًا في كل تلك الفوضى بلا أيّ عتاد سوى تلك الرّسومات الإرشاديّة الإسكندنافيّة وقطعة معدنيّة على شكل حرف L. واقعًا بهذا بين شِقيّ الرّحى. وفي حوالي الواحدة أو الثّانيَة صباحًا، واجهني قرار وجوديّ: هل أحيد عن التّعليمات؟ كنتُ قد علِقْت بتجميع أحد الأجزاء لمُدّة خمس وأربعين دقيقة، وهو وقت أطول من الوقت الّذي كنت أنوي إنهاء المشروع كُلّه فيه بحوالي خمس وأربعين دقيقة. لم تكن الصّورة تبدو معقولة، فالقِطَع لا يُمكن أن تتناسب معًا بالطّريقة الّتي أرادتها لها آيكيا. شعرتُ قليلًا مثل رُوّاد الفضاء على متن سفينة أبولو 13، يتحدّثون إلى مركز مُراقبة البعثة في هيوستن: كنتُ محرومًا من النوم، ولم آكل لساعات، وكان الأكسجين لديّ على وشك النّفاذ، وكنت في مسيس الحاجة للمساعدة الهندسيّة.
بعد مُحاولة لفهم التعليمات على مدار أيام تقريبًا، توصّلت أخيرًا إلى نتيجة دراميّة من شأنها أن تُغيّر حياتي: كانت آيكيا على خطأ. لقد ضلّلتني التّعليمات غير المصحوبة بالكلمات، ثنائيّة الأبعاد، المرسومة بالأسود والأبيض، فقد أظهرت الصّورة قطعة من الأريكة مُتجهة إلى اليمين بينما كانت القطعة الّتي كنتُ بحاجة إلى استخدامها في الواقع مُتجهة إلى اليسار. ومرّة واحدة أدركتُ أن الدّليل الإرشاديّ كان على خطأ، وهكذا أمكنني أن أتنفّس الصّعداء مُجددًا. شعرت بحُمرة الدّم تتدفّق مرّة أخرى إلى وجهي. اعتقدتُ مرّة أخرى أنّه إن قُمتُ بالتّركيز عليها حقًا، فسوف يُمكنني أن أقوم بتجميع الأريكة آيكيا قبل شُروق الشّمس. بدأ كل شيء يستعيد معقوليّته مرّة أخرى عندما قبلتُ أن تلك التّعليمات رغم كونها حسنة النّيّة، إلّا أنّها لم تكن دقيقة تمامًا.
هل يُشبه الكِتَاب الْمُقدّس بأيّ حال من الأحوال دليل استخدام آيكيا؟ أليس هُناك أجزاء من الْعَهد القَدِيم لم تعُد صحيحة اليوم؟ ألا يبدو احتمال حُدوث بعض المُعجزات في الْعَهد الْجَدِيد بعيدًا قليلًا؟ أليس هناك بعض المُتطلبات الأخلاقيّة في الكِتَاب الْمُقدّس الّتي لم تعُد صالحة للعمل بها في عالمنا اليوم؟ أجل، الكِتَاب الْمُقدّس هو كتاب رائع. أجل، الكِتَاب الْمُقدّس دقيق عندما يتعلّق الأمر بالخُطوط العامّة الكبيرة. أجل، الكِتَاب الْمُقدّس موثوق به بشكل أساسيّ وعادة ما يكون مُفيدًا حقًا. ولكن أليس من الأفضل -في الحالات النّادرة الّتي تكون الصّورة الكتابيّة فيها غير صالحة- أن نذهب باحترام في اتجاه مُختلف؟ يجب علينا أن نُؤكّد أن كل كلمة، من كل آية، من كل أصحاح، في كل سفر من أسفار الكِتَاب الْمُقدّس هي من الله، موحى بها، ولها سُلطان، وغير قابلة للكسر، ودُون خطأ.
وجهة نظرالرّب يَسُوع
قبل أن نُقدّم لأنفسنا الإجابة على هذا السّؤال، من المفيد أن نسمع ما يقوله الرّب يَسُوع:
«لاَ تَظُنُّوا أَنّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمّلَ. فَإِنّي الحقّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أن تَزُولَ السّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النّامُوسِ حَتّى يَكُونَ الْكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصّغْرَى وَعَلّمَ النّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ. وَأَمّا مَنْ عَمِلَ وَعَلّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ. فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنّكُمْ أن لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرّيسِيّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السّماوَاتِ» (متّى 5: 17-20).
إنّ موعظة الجبل تدور حول التّلمذة إذ تُجيب على أسئلة مثل هذه: كيف يبدو الأمر حين تكون تلميذًا للرّب يَسُوع الْمَسِيح؟ كيف يبدو النّاس حين يأتي الملكوت إلى حياتهم؟ أيّ نوعٍ من النّاس نكون نحن حين يحكم الله ويتحكّم في قلوبنا وعقولنا؟ يقول الرّب يَسُوع إنّه إذا كنت جُزءًا من عائلة الله، إذا كنت من ضمن فريق الله، إذا كنت تنتمي إلى ملكوت الله، إذًا فعليك أن تكون وديعًا، ورحيمًا، ونقيًا، ومسكينًا بالرّوح. إنّه يقول يجب عليك أن تكون مثلَ الملح والنّور الّذي يكشف أفعال الظّلام في العالم.
بمعنى ما، لا يُوجد شيء جديد بشكل خاص فيما يتعلّق بمضمون ما كان يعظ به الرّب يَسُوع. فما يقوله الرّب يَسُوع سيتحدّى تلاميذه اليَهُود المُجتمعين حوله، بكُلّ تأكيد، لكنهم قد يومِئون رؤوسهم بالمُوافقة على ما يقوله الرّب يَسُوع. إن المشكلة تكمن فيما لا يقوله الرّب يَسُوع. إنّه لا يضع التّركيز الأساسيّ على النّاموس؛ التّوراة. إن أيُّ يَهُوديّ صالح سيتوقّع من أي حاخام صالح أن يُسهِب في الحديث عن النّاموس؛ فتنظيم الحياة لتدور وجودًا وعدمًا مع التّوراة ليس فقط ما يجعلك يَهُوديًا، بل ما يجعلك يَهُوديًا صالحًا. ومع ذلك، يتحدّث الرّب يَسُوع كما لو أن النّقطة المركزيّة لإيمانهم يجب أن تكون هي الرّب يَسُوع نفسه «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كل كَلِمَةٍ شِرّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ» (الآية 11). آه، إذًا فكُلّ هذا يدور حولك أيّها الرّب يَسُوع؟! نعم إنّه كذلك. ولكن الرّب يَسُوع يبذل جهدًا كبيرًا لتوضيح أن هذا لا يعني أنّه مُعادٍ للتوراة أو مُعادٍ للأسفار الْمُقدّسة. لا يُمكن لتلاميذه الحقيقيّين أن يكون لهم توجُّه استهانة نحو كلمة الله. لهذا يقول الرّب يَسُوع ما يقوله في الآيات 17-20.
أريد أن ألقي نظرة على هذه الآيات تحت عُنوانيْن بسيطيْن: (1) الْمَسِيح والكِتَاب الْمُقدّس (2) الْمَسِيحيّون والكِتَاب الْمُقدّس.
المسيح والكِتَاب الْمُقدّس (5: 17-18)
يقول الرّب يَسُوع، بشكل قاطِع، إنّه لم يأتِ لإلغاء أصغر نُقطة ضئيلة من الأسفار الْمُقدّسة. عندما يقول «النّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ» في الآية 17، فإنّه يُشير إلى كل الكِتَاب الْمُقدّس العبريّ (ما نعرفه اليوم على أنّه الْعَهد القَدِيم). وكلمة النّاموس (نوموس νόμοςفي اليُونانيّة أو التّوراة תֹורָתִ في العبريّة) يُمكن أن تُشير إلى أوامر الله، أو الوصايا العشر، أو الْعَهد الموسويّ، أو الكُتُب الخمسة الأولى من الكِتَاب الْمُقدّس. ويُمكن أن تُشير أيضًا إلى الْعَهد القَدِيم بأكمله (يُوحنّا 10: 34؛ 12: 34؛ 15: 25؛ كُورِنثُوس الأولى 14: 21). في الْعَهد الْجَدِيد، بالإضافة إلى «النّاموس»، يُسمّى الكِتَاب الْمُقدّس العبريّ أحيانًا «الكتاب أو الكُتُب» أو «المكتوب» (يُوحنّا 10: 35)؛ وأحيانًا النّاموس والأنبياء (متّى 5: 17؛ 7: 12؛ 11: 13؛ 22: 40؛ لُوقَا 16: 16؛ يُوحنّا 1: 45؛ أعمال الرُّسُل 13: 15؛ 28: 23؛ رُوميَة 3: 21)؛ وأحيانا النّاموس، والأنبياء، والمزامير (لُوقَا 24: 44). عندما يتحدّث الرّب يَسُوع عن «النّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ» في الآية 17 و«النّامُوسِ» في الآية 18، فهو يتحدّث عن الشّيء نفسه: أسفار الْعَهد القَدِيم العبريّة الْمُقدّسة. وبما أنّه يتحدّث عن كتابه الْمُقدّس، وبما أنّه فهم أن كلماتِه والكلمات الرّسُوليّة المُستقبليّة عنه لها سُلطان مُماثل للأسفار الْمُقدّسة العبريّة (متّى 5: 21-22، 27-28، 31-32، 33-34، 38-39، 43-44؛ 7: 24، 26، 28-29؛ يُوحنّا 14: 6؛ 16: 12-15)، فيُمكننا أن نُطبّق بِحَقّ ما يقوله الرّب يَسُوع هُنا على العهديْن القَدِيم والْجَدِيد في كُتُبنا الْمُقدّسة.
إنّ ما يقوله الرّب يَسُوع عن الكِتَاب الْمُقدّس مُدهش.
أوّلًا، يقول بوُضوح وبشِدّة إنّه لم يأتِ «لينْقُضَ النّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ». والفعل المُترجم إلى «ينْقُضَ» هو الكلمة اليُونانيّة «كاتالو καταλύω». وهي تُستخدم ثلاث مرّات أُخرى في بِشَارة مَتّى:
- «فَقَالَ لَهُمْ الرّب يَسُوع: أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هَذِهِ؟ الحقّ أَقُولُ لَكُمْ إِنّهُ لاَ يُتْرَكُ هَهُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!» (24: 2).
- «وَقَالاَ: هَذَا قَالَ إِنّي أَقْدِرُ أن أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيّامٍ أَبْنِيهِ» (26: 61).
- «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيّامٍ خَلّصْ نَفْسَكَ!» (27: 40).
إنّ الرّب يَسُوع يقول «إذا كنت تعتقد أنّني جئتُ لتدمير الأسفار الْمُقدّسة، فإنّك ترتكب خطأ مميتًا. إنّني لم آتِ لإلغائها، أو فصلها، أو إزالتها، أو تفكيكها، أو إبطالها، أو نسخها، أو تخفيفها، أو وضعها جانبًا بأيّ طريقة أو شكل أو حال. هذا ليس ما جئتُ من أجله. ليس هذا ما يقوم عليه الملكوت. إذا كنتَ تريد الْمَسِيح الّذي يتصرّف بتهاون واستهتار مع الكِتَاب الْمُقدّس، فقد أخطأت في اختيار الشّخص المناسب».
عند هذه النّقطة، قد تُفكّر هكذا: ولكن ماذا عن كل الأشياء في الْعَهد القَدِيم الّتي لم نعُد نتبعها؟ على سبيل المثال:
- مَرقُس 7: 19 يُوضّح أن الرّب يَسُوع أعلن أن جميع الأطعمة طاهِرة.
- ويُظهر لنا سِفر الأعمال 10-11، 15 أن الشّخص لا يجب أن يمُر على اليَهُوديّة من أجل أن يصبح مسيحيًا.
- رُوميَة 14: 14 تُضفي صفة النّسبيّة على ما يخُص تقديس الأطعمة والأيام.
- العبرانيين 7: 1-9: 10 يكشف لنا أن النّظام الكهنوتيّ الذبائحيّ القائِم على الهيكل قد أصبح كُلُّه عتيقًا.
إنّ الإجابة على هذه المُشكلة الظّاهرة تأتي في نُقطتي الثّانيَة. يقول الرّب يَسُوع إنّه جاء ليتمّم النّاموس والأنبياء. والكلمة «أُكَمّلَ» هي التّرجمة العربيّة للكلمة اليونانيّة «بليرو πληρόω»، وهي كلمة مُهمّة جدًا في بِشَارة مَتّى، وترد ست عشرة مرّة في هذا الإنجيل (1: 22؛ 2: 15، 17، 23؛ 3: 15؛ 4: 14؛ 5: 17؛ 8: 17؛ 12: 17؛ 13: 35، 48؛ 21: 4؛ 23: 32؛ 26: 54، 56؛ 27: 9). دعونا ننظر إلى عدد قليل فقط من هذه المقاطع لنرى كيف يتم استخدام «أُكَمّلَ» في بِشَارة مَتّى.
- مَتّى 1: 22 فعل أو قول ما ينُصُّ عليه الْعَهد القَدِيم.
- مَتّى 2: 15 تنفيذ حرفيّ.
- مَتّى 4: 14 القيام بما هو مطلوب.
- مَتّى 26: 54 التّكميل.
إنّ الرّب يَسُوع يتمّم الكتاب فيما يُعلّمه، وما يفعله، وفي شخصه، وكيفية موته، ولكن كلمة «أُكَمّلَ» لا تُشير فقط ببساطة إلى تحقيق نُبُوّات مُحدّدة. إن «بليرو πληρόω» تعني أن الرّب يَسُوع يتقدّم بالكِتَاب الْمُقدّس نحو الاكتمال. فهو يتقدّم به إلى ذُروته، إلى هدفه المنشود، إلى تحقيقه النّهائيّ. كذلك فالإكمال في خدمة الرّب يَسُوع ليس فقط فيما يخُصُّ فعل وقول ما سبق أن تنبّأ به الْعَهد القَدِيم أنّه سوف يفعله ويقوله. وكما كتب دوجلاس مو Douglas J. Moo«تُستخدم الكلمة في الْعَهد الْجَدِيد للدّلالة على العلاقة الواسعة الّتي تدور في إطار تاريخ الفداء بين الإعلان الأَوْجيّ (النهائي، الاكتماليّ، التّحقيقيّ) عن الله في الْمَسِيح، وبين الإعلان التّحضيريّ غير المُكتمل إلى إسرائيل ومن خلالها»[1]
إنّ أفضل طريقة لفهم كل ما يعنيه الإكمال هو التّفكير في كلمة ملء الشّيء في قلبه تمامًا، فالرّب يَسُوع يُحقّق ويملأ كل الأسفار الْمُقدّسة. وهو يقول للكتبة والفريسيّين في مَتّى 23: 32 «فَامْلَأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ»، بمعنى «واصلوا حياتكم بينما تعيشون كل الفساد الّذي حقّقه آباؤكم للنهاية». هذه هي كلمة «بليرو πληρόω». يقول الرّب يَسُوع في مَتّى 5: 17 «أنا لم آتِ لأُنحّي جانبًا، أو أطرح، أو أنتقص من قدر أيّ شيء في الكِتَاب الْمُقدّس. أنا لم آت لأعبث به، بل لقد جئتُ لأكمله؛ لإظهار المغزى الّذي يدور حوله الكتاب كُلّه، لأفعل ما يقوله، لأتمّم بحياتي كل ما تمّ التنبّؤ به للنهاية، لأضع الألوان على ما كان مرسومًا بالأبيض والأسود، لأُظهر لك جوهر ما كنتَ تراه فيما مضى ظِلًّا فقط. لذلك، نعم، عليك أن تنظر إلى النّاموس والأنبياء في نُوري، وأمّا أنا فلا أعتقد أنّني أُحاول أن أُعتّم أي شيء في هذا الكتاب».
وإذا لم يكن ذلك كافيا كبيان لتأييد الأسفار الْمُقدّسة، فها هو الرّب يَسُوع يُسدّد تصويبة أخرى في عدد 18. إنّه يقول «فَإِنّي الحقّ أَقُولُ لَكُمْ...». إن هذه الصّيغة هي صيغة قسم. فالكلمة المُستخدمة في اليُونانيّة هي «آمين ἀμήν». إنّها الطّريقة اليَهُوديّة للقول «اسمع! دعني أقول لك شيئا. ما أنا على وشك أن أقوله لك هو الحقّ المُباشر: سوف ترى السّماء والأرض تزولان قبل أن ترى زوال أصغر حرف أو أدق نُقطة من النّاموس».
إنّ الـ «إيّوتا» هو الحرف اليونانيّ (Ι)، ولكن الرّب يَسُوع في الواقع يُشير هنا إلى الحرف العبريّ «يود» والّذي له هذا الشّكل (י). وهو أصغر جميع الحُروف العبريّة. إنّه يبدو كفاصلة علويّة صغيرة. وقد قدّر أحد العلماء أن هناك ستة وستين ألف حرف «يود» في الْعَهد القَدِيم. يقول الرّب يَسُوع إن كل واحد منها ذو أهميّة كبيرة. إنّه لا يُريد أن ينتزع -ولو لمرّة واحدة- أصغر الحُروف في الأبجديّة العبريّة!
أمّا «النّقطة» فتُشير على الأرجح إلى النّتوءات الصّغيرة (القُرون) الّتي تُميّز بين بعض الحروف العبريّة (على سبيل المثال، البيت ב والكاف כ، أو الدّالت ד والرّيش ר). وكمثال في اللُغة الإنجليزيّة فهي تُشبه ذلك النّتوء العُلويّ الأطول الّذي يظهر فوق الحرف (h) ليُميّزه عن الحرف (n). ولا واحد من تلك الشّويكات الصّغيرة سوف تفنى من حرفٍ واحد في كلمة واحدة في آية واحدة في الكِتَاب الْمُقدّس كُلّه. لم يستطع الرّب يَسُوع أن يُؤكّد تمسُّكه بالأسفار الْمُقدّسة بلُغة أقوى من هذه.
الْمَسِيحيّ والكِتَاب الْمُقدّس (5: 19-20)
حينما ندرك موقف الْمَسِيح تجاه الكِتَاب الْمُقدّس يُصبح من السهل علينا أن ندرك ما يجب أن يكون عليه موقفنا نحن كمسيحيين من الكِتَاب الْمُقدّس؛ فالتّلميذ الْمَسِيحيّ النّاضج لا يتهاون مع أي من وصايا الأسفار الْمُقدّسة.
في يُوحنّا 10: 35، يُعلن الرّب يَسُوع «لاَ يُمْكِنُ أن يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ». إن الكلمة اليُونانيّة المُترجمة «يُنْقَضَ» هي «لو λύω»، والّتي يُمكن أن تعني «يُكسَر، أو يُخفّف، أو يهوّن». وهي مرتبطة بكلمة «كاتالو καταλύω»، الّتي ترجمت إلى «أَنْقُضَ» في مَتّى 5: 17. إذًا لم يأتِ الرّب يَسُوع لنقض، أو لكسر، أو لتخفيف، أو لتهوين الأسفار الْمُقدّسة، ولا يجب علينا فِعل هذا أيضًا، فإن نقضنا (كسرنا، خفّفنا، هوّنّا) ولو حتى أصغر وصيّة من وصايا الله وعلّمنا النّاس هكذا، فإنّ الرّب يَسُوع يقول، إننا نضع أنفسنا بين المدعوين «أَصْغَرَ» في ملكوت السّماوات (الآية 19).
إنّ عبثك بالأسفار الْمُقدّسة لا يضعك في مكانة مرموقة، ومُغازلة العصيان لا تجعل منك شخصًا جذّابًا، فمحوريّة الإنجيل لا تدع لنا فرصة للتّباهي أو للاحتفاء بانتهاك وصايا الله بأيّ طريقة. لن يدعوك الرّب يَسُوع شخصًا لطيفًا عندما تكسر وصاياه؛ بل سيدعوك الأصغر في ملكوت السّماوات.
ماذا يعني أن تكون لك «عقليّة الملكوت»؟ يُمكن أن يعني هذا أشياء كثيرة، ولكن عدم قراءة كتابك الْمُقدّس، والاعتقاد بأنّك تعرف أفضل من كتابك الْمُقدّس، وتحريض النّاس على تجاهُل أجزاء من الكِتَاب الْمُقدّس؛ فهذه ليست حياة تُوافق الملكوت.
في الآية 20، يُقدّم الرّب يَسُوع فئة جديدة؛ شخصًا ليس في الملكوت على الإطلاق. فهو يقول إن بِرّنا يجب أن يتجاوز بِرّ الكتبة والفريسيّين وإلّا فلن نكون قادرين على دُخول الملكوت. لا يتحدّث الرّب يَسُوع هُنا عن البر الّذي يحتاجون أن يستقبلوه منه. هذا البر هو حقّ الإنجيل الرّائع، ولكنه ليس ما يتحدّث عنه الرّب يَسُوع هُنا. إنّه يتحدّث عن التّلمذة، يتحدّث عن كيف نعيش، وكيف نسلك. ببساطة، لا يجب أن نسلك كما سلك الكتبةُ والفريسيّون.
وسوف يشرح لنا الرّب يَسُوع في بقيّة الموعظة على الجبل أيّ نوع من البر هو الّذي ينشده. إنّه البر النّاتج عن وعد الله حين قال «أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ» (إرميا 31: 33). إنّه البِر النّاتج عن «وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي» (حزقيال 36: 27). إن النّاموسيّة هي مُحاولة كسب الخلاص من خلال حفظ النّاموس. نحن عادة نستخدم كلمة «ناموسيّ» لوصف «شخص أكثر جديّة بشأن الطّاعة». إن الرّب يَسُوع ليس ضد حفظ النّاموس بل ضد حفظ الناموس النّابع من الرّياء. وأن تكون تلميذًا للرّب يَسُوع فهذا يعني أن تكون الشّخص الّذي يأخذ كل الكِتَاب الْمُقدّس، وجميعَ الوصايا في الكِتَاب الْمُقدّس، على محمل الجد.
الخُلاصة
ليسمح لي القارئ أن أختتم بنُقطتيْن للتطبيق العمليّ:
أوّلًا، يجب ألّا نتعلّل بالرّب يَسُوع لتجاهُل أي شيء في الكِتَاب الْمُقدّس. ينبغي علينا ألّا ندُقّ إسفينًا ولا أن نصنع تمييزًا زائِفًا بين العهد القَدِيم والعهد الْجَدِيد. يجب علينا ألّا نطرح جانبًا المُعجزات الواردة في الْعَهد القَدِيم، ولا السّرد التّاريخيّ فيه، ولا سلاسل الأنساب. يجب ألّا نشُك في قُوّة كلمة الله. إذ في معركته الرُّوحيّة الكبرى خلال حياته، قاوم الْمَسِيح الشّيطانَ راسِخًا عن طريق اقتباس ثلاث آيات من سفر التّثنية (متّى 4: 1-11).
ثانيًا، يجب أن نرى الكِتَاب الْمُقدّس في ضوء الرّب يَسُوع. سَلْ «كيف يُشير هذا إلى الرّب يَسُوع؟ كيف يُعِدُّ هذا الجُزء الكتابيّ الطّريقَ للرّب يَسُوع؟ كيف عاش الرّب يَسُوع هذا؟ كيف سيُساعدني الرّب يَسُوع أن أعيش هذا؟»
وفي فقرة واحِدة رائعة، ثبّت الرّب يَسُوع الأساسَ الرّاسخ الّذي نحتاج إليه جميعًا للنُضج الْمَسِيحيّ: سُلطة الكِتَاب الْمُقدّس وسُلطته الشّخصيّة بصِفته المسيّا، وهاتان السُّلطتان ليستا مُتعارضتيْن. إذا كنتَ تريد أن تجد الْمَسِيح، يجب عليك أن تهرع إلى الكِتَاب الْمُقدّس. لا تُوجد طُرُق مُختصَرة.
[1]Douglas J. Moo, “The Problem of Sensus Plenioç” in Hermeneutics, Authority, and Canon, ed. D. A. Carson and John D. Woodbridge (Grand Rapids, MI: Zondervan, 1986), 191.