الخطية! رغم قلة حروف هذه الكلمة، فهي حروف تفصل بين السعادة والشقاء، الحرية والعبودية، السماء والجحيم. قد ينكر البشر وجودها، أو يقلّلون من سطوتها، أو يحاولون تجنُّب عواقبها، ولكنها تبقى حقيقة باردة عنيدة مرعبة تفصل النفس عن الله القدير.
يمكن إثبات حقيقة وجود الخطية بواسطة ثلاثة أدلة. الدليل الأول: يقدّم لنا التاريخ شهادة لا يمكن إنكارها عن وجود الخطية وسطوتها. بقدر عُمر الإنسان على الأرض انتشرت الحروب والاضطرابات والمرض والموت في كل مكان. فعلامات الخطية تتبدّى على الخليقة كلها على نحو لا تخطئه العين. فهي تُسَوِّد صفحات التاريخ بآثارها. الدليل الثاني: أن ضمير الإنسان يشهد على طبيعته الخاطئة؛ فما من إنسان، مهما بدا صالحًا يستطيع أن يزعم، عن حق، أنه خالٍ من الغيرة أو الكبرياء، أو الشهوة، أو الطمع، أو الخبث، أو الكراهية. الإنسان الأمين الذي يدعو الأشياء بمسمياتها الصحيحة يعترف بطبيعته وأفعاله الخاطئة. الدليل الثالث: الكلمة المقدسة تشهد، مرارًا وتكرارًا، على حقيقة وجود الخطية. فكلمة الله منذ بدايتها إلى نهايتها تواجه الخطية مواجهةً واقعيةً وتحل مشكلتها. لما كان الكتاب المقدس يتتبع ظهور الخطية، فإنه يستطيع أن يتتبع دراما الفداء التي يتحرّر فيها البشر من لعنة الخطية.
أ. طَبيعة الخطيّة
1. الخطية هي الإخفاق في إتمام ناموس الله سواء سلبًا أو إيجابًا، إما بالإغفال أو المخالفة. ولا يمكن فهم الخطية إلا في ضوء ناموس الله، وهو معيار خارجي له سيادة ملوكية للصواب والخطأ أعطاه الله للبشرية. إن الناموس أو الشريعة في حد ذاته تعبير لطبيعة الله وصفاته. وعليه، فعندما يخفق البشر في الحياة وفقًا لشريعة الله، أو عندما يتعدّونه، فإنهم يرتكبون عملًا عدائيًا في حق الله القدير. الخطية مُشينة وتستحق العقاب الذي يستتبعها.
يتضح المفهوم الكتابي للخطية في الكلمات التي يصفها بها الكتاب المقدس. فالأصل العبري يعني «الحيدان عن الطريق»، والأصل اليوناني ينطوي على معنى «عدم إصابة الهدف» «الابتعاد عن شيء». إن وجود الخطية في حد ذاته يكشف عن وجود مستوى أو مقياس يمكن وزن أعمال البشر بناءً عليه. هذا ما يعبر عنه الرسول بولس بصراحة: «لِأَنَّ ٱلنَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ» (رومية 4: 15). ويُعرِّف الرسول يوحنا الخطية بأنها التعدي (راجع 1يوحنا 3: 4)، أي خرق الناموس.
2. وللخطية شكلان:
أ. أفعال خارجية. على سبيل المثال، شخص يكذب، أو يسرق شيئًا لا يخصه، أو يغش لتحقيق ربح شخصي، أو يقتل مدفوعًا بالغضب، أو يبدي غرورًا. هذه أفعال فردية تفصل الإنسان عن الله وكذلك عن قريبه الإنسان.
ب. خطايا قلبية. خلف وتحت سطح كل أفعال البشر طبيعة خاطئة في الإنسان. والقلب هو مصدر أفعاله الشريرة. فساد قلبه الأخلاقي وفطرته هو النبع الذي تصدر منه الأفعال الخارجية. الخطية نفسها تنبع من الميل الفطري لارتكاب الخطية. فالخطية «تملُك» (رومية 6: 12) في القلب غير المتجدّد. والجسد هو الميل الفطري لارتكاب الخطية «لِأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ» (غلاطية 5: 17). يكتب الرسول بولس «وَلَكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْني» (رومية 7: 23).
ب. خطيّة آدم
الأسئلة التي تطرح نفسها: «لماذا نقع كثيرًا في الخطية؟ لماذا لدينا وعي دائم بطبيعتنا الخاطئة؟ هل حدث شيء أوقع الجنس البشري بأكمله في حالته الخاطئة؟» نجد إجابات هذه الأسئلة في قصة خطية آدم وفي الإعلان الكتابي عن أثر تلك الخطية على الإنسانية.
1. خُلِق آدم على صورة الله، أي أنه كان يملك الحرية الأخلاقية. وإذ مُنح حرية الاختيار في سياق وصية محدّدة من الله، فقد وقع في الخطية. واتخذ تعديه طابع عدم الإيمان إذ رفض أن يصدّق كلمة الله واستمع إلى كذبة إبليس، وفي عصيانه اختار أن ينفّذ مشيئته الشخصية بدلًا من مشيئة الله.
2. تمثّلت تبعات خطية آدم في شعوره بالذنب أمام الله، وفي فساده الأخلاقي، فضلًا عن فقدان البر الأصلي والعجز الكامل عن استرداد حالته الأولى والانفصال عن الله انفصالًا جسديًا، وروحيًا ثم الموت الأبدي (الانفصال عن عمل المسيح المعطي الحياة).
3. كان آدم الممثّل الرسمي للجنس البشري، وهذا التمثيل اكتمل في سقوطه (راجع رومية 5: 12-21؛ 1كورنثوس 15: 22). أنا وأنت كُنّا جزءًا من آدم حينما أخطأ وسقط.
4. وعليه، فخطية آدم وما ترتّب عليها من نتائج مرعبة انتقلت إلى نسله، وأضيفت إلى حسابهم، وأصبحت على قائمة الاتهامات القانونية الموجّهة لهم. (راجع رومية 5: 12، 15، 18، 19). واليوم، صار لجميع البشر أجساد فانية، ونفوس فاسدة، وميل لارتكاب الخطية يبدأ بولادتهم، وحُكم أبدي عليهم بالموت بعيدًا عن المسيح.
5. رغم أن البشر يُولدون في الخطية وهم مذنبون أمام الله منذ الميلاد، لكن صحيح أيضًا أن جميع البشر البالغين أنفسهم يخطئون خطايا خارجية أيضًا. رغم أن الشعور بالذنب لم ينتقل من آدم لبقية البشر، فإنهم مازالوا مذنبين نتيجة أفعال الخطية الخارجية وما زالوا واقعين تحت دينونة الله.
ج. الخطيّة مُشكلة عالميّة
كان آدم يمثّل الجنس البشري بأكمله بدون تمييز بين لون أو حالة أو ظروف أو مناخ أو ثقافة. الخطية هي العنصر المشترك بين الجميع؛ فكل البشر في كل مكان وفي كل الأجيال يواجهون شبح الظلم المفزع. فالقلب يدين الإنسان سواء أكان هذا الإنسان بدائيًا متوحشًا أو مواطنًا عالميًا راقيًا. يعلن الكتاب المقدس عن الخطية وعلاقتها بالإنسان قائلًا:
1. ليس بمقدور الإنسان أن يهرب من ذنب الخطية «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء53: 6 الجزء الأول). ومضمون القضية التي يطرحها رومية 1: 18-3: 23 يتلخّص في أن جميع البشر غارقون في الخطية، سواء كانوا أممًا أو يهودًا. ويعلن الرسول بولس استنتاجًا قاطعًا بقوله: «لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱلله» (رومية 3: 22، 23).
2. الخطية لا تفرّق بين البشر حسب أعمارهم. كل طفل يُولد بالخطية. يعلن داود: «هَأَنَذَا بِٱلْإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5). والشخص البالغ يعلم في عمق كيانه أن الخطية كانت وما زالت مشكلته الدائمة. والمتقدّم في العمر ينظر عبر السنين المنصرمة من حياته ويتعجّب من مراحم الله رغم قساوة قلبه.
3. الخطية تطال الإنسان لأنها تطال الكل. وهذا يعني أنها تشملك وتشملني. فهل لنا أن نرفض الاعتراف بوجودها، هل نصطنع أسبابًا لها أو نتساهل معها؟ أم بالأحرى نعترف بها، ونتركها، كما فعل داود، ونترجّى رحمة الله وصفحه وتطهيره؟ (راجع مزمور51: 1-3).
د. مدى الخطيّة في قلبِ الإنسَان
تصف الكلمة المقدسة شمولية مشكلة الخطية. ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك إذ تتحدّث عن بشر امتلكتهم الخطية ومدى سيطرتها على قلب البشر. الخطية تغزو قلب كل إنسان فتفسد وتقتل كل حياة. وهكذا، فإن البشر في حالة تمرد على خالقهم.
يجب تعريف هذا الفساد تجنبًا لسوء الفهم. فهذه الحالة لا تعني أن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى حالة نسبية من الأخلاق أو أنه لا يستطيع أن يكون «مواطنًا» أو أبًا صالحًا. كما أنها لا تعني أن جميع البشر متساوون في شر أفعالهم الخارجية أو أفكارهم الداخلية؛ فما أكثر الخطاة المحترمين! الفساد الإنساني يعني أن الإنسان يعتبر الله غير مناسب لحياته، وعليه فإنه لن يُخضِع نفسه لخالقه ولن يُقدّم له الإكرام اللائق به. وهكذا، قرّر الإنسان باختياره أن يغترب عن الله مهما بدت حياته صالحة من الخارج، فقد كسر شركته مع خالقه. لقد اتخذ قراره «لِأَنَّ ٱهْتِمَامَ ٱلْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ لِلهِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعًا لِنَامُوسِ ٱللهِ، لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَسْتَطِيع» (رومية 8: 7).
ه. عواقِب الخطيّة
1. انحطاط. جميع إمكانات نفس الإنسان وجسده منحدرة أخلاقيًا. طبيعته فاسدة، ورغباته ملوثة، وبصيرته الروحية عمياء، وإرادته موجّهة بعيدًا عن الله (راجع رومية 1: 29-32).
2. دينونة. خرق القانون يأتي بالذنب. وكل خطية تُرتكَب تستوجب الدينونة وتستنزل عقوبة الله. هذا القانون الإلهي لا رجعة فيه. (راجع رومية 3: 19).
3. الانفصال عن الله، أي الموت. الله كُلّي القداسة. ولا يمكن أن تكون لله شركة مع مخلوقات غير مقدّسة، لأنه «هَلْ يَسِيرُ ٱثْنَانِ مَعًا إِنْ لَمْ يَتَوَاعَدَا؟!» (عاموس 3: 3). والانفصال عن الله يعني الموت. والبشر بطبيعتهم «أَمْوَاتًا بِٱلذُّنُوبِ وَٱلْخَطَايَا» (أفسس 2: 1). «حَتَّى كَمَا مَلَكَتِ ٱلْخَطِيَّةُ فِي ٱلْمَوْت» (رومية 5: 21). «لِأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْت» (رومية 6: 23). «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوت» (حزقيال 18: 4)، لا بل إن الموت الجسدي الذي يختبره البشر حينما تنفصل الروح عن الجسد يُعد أيضًا من نتائج الخطية.
و. حَل مُشكلة الخطيّة
1. ما لم ينقذ شيء ما الإنسان من خطيته، فسيؤول ذلك إلى مشكلة أكبر إذ يصبح انفصاله عن الله انفصالًا أبديًا، وانحطاطه كاملًا، وسيقضي الأبدية في الجحيم «حَيْثُ دُودُهُمْ لَا يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لَا تُطْفَأ» (مرقس 9: 44). ولكن الإنسان عاجز عن علاج هذا الموقف، أو افتداء نفسه من الخطية، أو تخليص نفسه من الشرك، أو إنقاذ نفسه من الهلاك. إن لم يتدخّل الله، فالإنسان محكوم عليه بالهلاك الأبدي.
2. إذا كان للإنسان الخلاص من الخطية، فالسبيل الوحيد للخلاص هو يسوع المسيح. نشكر الله على ابن الله القادر على أن يُخلّص «إِلَى ٱلتَّمَام» (عبرانيين 7: 25) أعتى الخطاة وأحمقهم ويجعلهم أولادًا وبناتٍ لله.