بقلم مارك آلان پاول
ترجمة أشرف بشاي
مسيح الأكوان
تتحدث رسالة كُولُوسِّي عن يسوع المسيح في تعبيراتٍ مجيدة؛ فالمسيح ليس ربَّ الكنيسة فقط، لكنه أيضًا الحاكم المطلق لهذا الكون (1: 15-17). إنه ليس مخلِّصَ البشر فقط، بل هو الشخص الذي يصالح كلَّ الأشياء في السماوات وعلى الأرض (1: 20). يُوصَف شخص المسيح كالذي له «صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُور» (1: 15)، وكالذي «فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْء» (1: 19 قارن أيضًا 2: 9). إن عمل المسيح يتضمّن دوره التقليدي، كوكيل لله، في عمليّة الفداء (1: 14)، لكنه يتسع لكي يشمل دوره كوكيل لله في عمليّة الخلق أيضًا؛ فكل الأشياء في السماء وعلى الأرض، المنظورة منها وغير المنظورة، كلُّها «بِهِ وَلَه» (1: 16) قد خُلِقتْ.
إن الآيات المفتاحيّة التي تقدِّم هذا التقدير السامي للمسيح موجودة في فقرة كتابيّة ربما اُشتُقَتْ من ترنيمة أو قانون إيمان في الكنيسة الباكرة (1: 15-20). والرسول بُولُس لا يشعر بأي احتياج لكي يجادل بشأن هذه النقاط، ولا يحاول أن يُقنِع القُرّاءَ بشخصيّة المسيح ومن يكون، لكنه يقتبس، ببساطة، مادةً تعبُّدية liturgical material معروفة جيدًا للقُرّاء، باعتبارها طريقة تعليم للنقاط التي يريد أن يقولها، مُتخِذًا من هذا التعليم قاعدة للانطلاق. لذا يمكننا أن نتيقّن، استنادًا إلى المنطق السليم وتعقّل ما وراء الكلمات، أن هذا الفهم لشخص المسيح، ككائن إلهي له تفوّقه الكونيّ، كان فهمًا مقبولًا على نطاق واسعٍ بين المسيحيين وقت كتابة هذه الرسالة (قارن يُوحَنَّا 1:1-18؛ العبرانيين 1:1-4).
إن النقطة الرئيسيّة في اقتباس هذه الترنيمة في الرسالة إلى أهل كُولُوسِّي هي، ببساطة، محاولة لتذكيرهم باعترافهم confession الشخصي الخاص بأن المسيح يتفوّق ويسمو فوق الجميع (1: 18). ومسيحيو كُولُوسِّي في غير حاجة إلى القلق بشأن الأرواح أو القوات التي قيل إنها تتسلّط على هذه الأرض، لأن المسيح هو خالق هذه القوات (1: 16)، والمسيح هو المُتحكم والمُسيطر عليهم (2: 10)، وهو الذي قام بتجريدِهم الآن (2: 15). وبالمثل، فالكُولُوسِّيون لا يحتاجون إلى الاهتمام بشأن القواعد rules أو الممارسات التي يظنون أنها تجعلهم أكثر قبولًا أمام الله، إذ أن المسيح قد صالحهم بالفعل مع الله من خلال دم صليبه (1: 20)، والمسيح سوف يُقدِّمهم إلى الله كـ «قديسين، وبلا لوم، ولا شكوى» من خلال موته (1: 22). لماذا، إذن، يحتاجون إلى الختان الجسدي بينما أعطاهم المسيح، بالفعل، ختانًا روحيًا، مُزِيحًا «الجسد» من عقولهم (2: 11)؟ لماذا يهتمّون بالرحلات الرؤيويّة حيث يتعبّدون للملائكة (أو يتعبّدون مع الملائكة) بينما المسيح سبق وأقامهم بالفعل «لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّور» (1: 12). إن المسيح هو الشخص الذي «فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ» (1: 15-16)، وفيه تستمدُ الأشياءُ بقاءَها (1: 17)، وفداءَها (1: 18-20)، ولأنه ضابط لكل شيء فهُم لا يحتاجون إلى سواه.
الاسخاتولوجي المدرك (الآخرويات التي أدركناها) Realized Eschatology
تُعَدُ رسالةُ كُولُوسِّي واحدةً من كتابات قليلة بالعهد الجديد التي تؤكِّدُ على ما يُسمّيه اللاهوتيّون «الاسخاتولوجي المُدرَك»، فالاعتقادُ السائد بالرسالة هو أن البركات والمنافع المرتبطة بأزمنة النهايّة قد صارت متاحةً بالفعل في الحياة الحاضرة. في هذا الصدد تشابه رسالة كُولُوسِّي إنجيلَ يُوحَنَّا، كما تتشابه بوجه خاص مع رسالة أفسس.
إن رسالة كُولُوسِّي تُقدِّم لنا عملًا كاملًا قد أنجزه الله، كما تُعلِن النتائج الفوريّة لكل هؤلاء الذين آمنوا بالمسيح. إن التأكيد يقع على ما قد حدث بالفعل أكثرَ مما هو آتٍ في المستقبل: فالمؤمنون قد أُنقِذوا بالفعل من سلطان الظلمة (1: 13)، وتَمَّ نقلهم إلى ملكوت ابن محبته (1: 13). إنهم قد أُقيموا مع المسيح (2: 12؛ 3: 1)، والقوى الروحيّة التي من الممكن أن تقاومهم، قد جُردَت بالفعل؛ إذ أن المسيح قد أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (2: 15). هذه الإشارة ترسم لنا صورةً مأخوذة من القادة الرومان المنتصرين الذين اعتادوا أن يتبختّروا مُستعرضين أعداءَهم المهزومين والمأسورين عبر الشوارع بعد انتصاراتهم الحاسمة. يمكننا أن نُخمِّن أن الكاتب ربما استخدم هذه الصورة لكي يصف شيئًا عتيدًا أن يحدث في يوم الدينونة أو عند عودة المسيح القريبة. (اُنظر كُورِنْثُوس الأولى 15: 23-26)، لكن الكُولُوسِّيين قالوا إن تلك العودة قد حدثت بالفعل. متى حدث ذلك؟ إن مؤمني كُولُوسِّي غيرُ مهتمين أساسًا بأحداث التاريخ (أي بتقسيم الزمن chronology) (قارن مثلًا كُورِنْثُوس الأولى 15: 23-24؛ تَّسَالُونِيكِي الثانية 2:2-3). الفكرة هنا أن هذا الانتصار العام قد حدث بالفعل– في المستقبل! إن الاسخاتولوجي المُدرَك يتبنى منظورًا أبديًّا بالتمام أكثر منه منظورًا تاريخيًا، ومن منظور الأبديّة، فإن ما هو مستقبليٌّ بالنسبة لنا ربما يُنظَر إليه على أنه قد تمَّ بالفعل. الأمر، على أي وجه من الوجوه، هو التنبير على يقينيّة تحقُّق ما انتواه الله في مشيئته ثم تقدير لآثار ذلك الحدث على الحياة الحاضرة.
إن الأطروحة القائلة بأن مؤمني كُولُوسِّي قد «قاموا مع المسيح» (2: 13؛ 3: 1) تعني، بالمثل، في الشعور الروحيّ: أن المؤمنين ما زالوا يعيشون على الأرض وأنهم يهتّمون بالحياة وبالعلاقات داخل الهياكل المجتمعيّة التي يعترف بها العالم (3: 18 – 4: 1). إن حالتهم، كشعب مُقام بالفعل، هي حالة «مستترة» حاليًا (3:3)، لكن تلك الحالة ستُعلن حينما يعود المسيح (3: 4). إنها حالة تُختبَر في الحاضر «بالإيمان» (2: 12). يبدو أن مؤمني كُولُوسِّي يجب أن يعتبروا أن إقامتَهم مع المسيح حقيقةٌ مؤكَّدة، وهذه الحقيقة هي التي تحدِّد قِيّمَهم وتُشكِّلُ قرارات حياتهم (3: 1-3)، حتى لو بَدتَ هذه الحقيقة في طي الغيب من وجهة نظر المدقِّق في أحداث التاريخ الإنساني.
إن النقطة المحدّدة للتأكيد على الاسخاتولوجي المدرَك في قرينة رسالة كُولُوسِّي هي التأكيد للقُرّاء على أنه لا توجد قوة في الكون يمكن لها أن تُؤثِّر على المؤمنين الذين وضعوا ثقتَهم في المسيح، فالعناصر الروحيّة من الممكن أن تتحكّم في القضاء والقدر في هذا العالم (وهذه النقطة لم تُتناوَل في الرسالة)، لكن هؤلاء الذين اعتمدوا في المسيح قد ماتوا وقاموا في جدة الحياة، في ملكوت يقع خارج السلطات القضائيّة لهذه الأرواح (1: 13).
المعرفة والنضوج
إن التأكيد الملحوظ في رسالة كُولُوسِّي هو على النمو في المعرفة وتطوير حالة من النضوج الروحي (1: 9-10، 28؛ 2:2؛ 4: 12). هل هذا التأكيد يشي بأن الكُولُوسِّيين كانوا جهلة جزئيًا وغير ناضجين (قارن أيضًا كُورِنْثُوس الأولى 3: 1-3)؟ وعلى العكس من ذلك، فنقطة السخرية هنا أنه، وعبر كلّ الرسالة، يَدّعي مؤمنو كُولُوسِّي أنهم قد تعلّموا بالفعل ما يلزم أن يتعلّموه (1: 7؛ 2: 6-7). إن الإنجيل نَفَسَه قد نما فيهم وأثمر (1: 5-6). ولو ثبتوا فيه، فقط لو ثبتوا، فإن المسيح سيحضرهم إلى الله كـ «قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى أَمَامَه» (1: 22-23). إنه لمن الصعوبة بمكان أن يصبح المرء «أكثر نضوجًا» من ذلك! لقد وصلوا إلى الملء في المسيح (2: 10) الذي فيه حلَّ كل ملء الله (1: 19؛ 2: 9).
وربما كان الموضوع مرتبطًا بما روَّجه دعاةُ وأنصار تلك الفلسفة التي كانت تُواجهها الرسالة. إن برامج وممارسات أولئك الدعاة ادّعت أنها تمكِّن المؤمنين بالمسيح من الوصول إلى قامة روحيّة متطوِّرة، لكن في المسيح، صار لمؤمني كُولُوسِّي بالفعل «جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْم» (2: 3). إن الأفكار الجديدة «لَهَا حِكَاية حِكْمَة» (2: 23)، أي مظهر الحكمة فقط، وذلك الشخص الذي يروِّج لهذه الأشياء هو إنسانٌ «مُنْتَفِخ بَاطِلًا مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ الْجَسَدِيِّ» (2: 18) أي أنه متكبِّر، بدون مبرر بسبب طريقة تفكيره البشريّة. ولقد صار فشل برامج هؤلاء المعلمين واضحًا للعيان حينما نَظَرَ المرءُ إلى النتائج: فلقد قاد أولئك، في سعيِهم لتحقيق تطوّر روحي أكبر، والذين يُفترّض أن يكون قد فداهم الله (1: 14)، وصالحهم (1: 21)، قادهم إلى الدينونة (2: 16)، وإلى عدم الأهليّة (2: 18).
إن النمو الروحي الحقيقي يأتي من الله (2: 19؛ قارن أيضًا 1: 6؛ 3: 10)؛ فالجسد ينمو، والمؤمن يحتاج أن يمكث كجزء من هذا الجسد لكي ينمو إلى النضوجِ الكامل. إن الجسد هو الكنيسة، والمسيح هو رأس هذا الجسد (1: 18، 22، 24؛ 2: 17، 19؛ 3: 15). إن النمو والنضوج، طبقًا لما ورد في رسالة كُولُوسِّي، لا يتضمّنان اكتشاف أي شيء جديد، بل بالأحرى يتضمّنان البقاء في المسيح والثبات فيه طبقًا لما تعلّمه المؤمن في الماضي (2: 6-7)، ومِثل هذا النضوج يجدُ دليلَه في الثمر الذي يحمله؛ فالحياة التي تمجِّد الرب تتميّز بالأعمال الصالحة (1: 10 قارن أيضًا أفسس 4: 1). النضوج الروحي لا يقود أبدًا إلى إدانة الآخرين، بل بالأحرى إلى المحبة والسلام والشكر (3: 14-15 قارِنْ أيضًا 2:2).
أما الجزء الأخير من رسالة كُولُوسِّي فيخلُص إلى بعض النتائج المحدّدة عن النمو في المعرفة والنضوج (3: 1- 4: 1)، فالرذائل التي يتعيّن تجنُّبها (3: 5، 8-9) هي بمثابة نموذج لطريقة الحياة القديمة التي تحاول رسالة كُولُوسِّي أن تحذِّر منها، أما القيم المطلوبة والتي تُشجِّعنا عليها الرسالة في 3: 12-15 فهي الطريقة الجديدة للحياة التي يُدعَى فيها الكولوسيّون أنفسُهم للرداء الجديد. إن هذه الاستعارة «للخلع» و «اللبس» تستحضر (للذهن) صورة المعموديات المسيحيّة الباكرة، التي فيها يخلع طالبو العضويّة ملابَسهم ثم يُلبَسون رداءٌ جديد أبيض، كرمزٍ لهُويتهم التي تغيَّرت في المسيح، وهذه الهويّة الجديدة الممنوحة بالمعموديّة تؤثِّر على علاقاتهم، لأنه لن يوجد فيما بعد أيُّ تمييز بينهم استنادًا إلى الأصل أو الحالة (3: 11). لذا، فرسالة كُولُوسِّي تُختتَم بنموذج مبكِّر للتنظيم المسيحي للبيت Haustafel أي العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة التي تميِّز حياتنا اليوميّة، كمؤمنين سالكين في خضوعٍ لربوبيّة يسوع المسيح.