لما كانت الحياة المسيحية تُعاش من جانب بَشر من لحم ودم، فَكَما أن التغذية لازمة لاستمرار الحياة الجسدية، فهي أيضًا لازمةٌ لنمو الحياة الروحية. والتمتع بصحة جسدية يتطلب توفير الغذاء، والتريُّض، والراحة. أما في حالة الصحة الروحية فالتريُّض هو الخدمة، وتجديد الطاقات المستنفدة يتحقق بالصلاة، أما خط الإمداد بالغذاء فهو كلمة الله. والسؤال هنا: «كيف يستطيع أشخاص يحبّون الله ويريدون منه أن يستخدمهم جَعْل الكتاب المقدس ملكية شخصية في حياتهم؟ الإجابة جليّة: بواسطة دراسة كلمة الله.
أ. أسبَاب دِراسة الكِتَاب المُقدّس
1. حري بنا أن ندرس الكلمة المقدسة لأن الكتاب المقدس هو مصدر الإيمان، على الأقل في جزء من تعريفه «إِذًا ٱلْإِيمَانُ بِٱلْخَبَرِ، وَٱلْخَبَرُ بِكَلِمَةِ ٱلله» (رومية 10: 17).
2. الكتاب المقدس هو السلاح الذي يجلب به الروح القدس التوبيخ إلى قلب الإنسان وبه يتمم عمل التقديس «وَخُذُوا خُوذَةَ ٱلْخَلَاصِ، وَسَيْفَ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي هُوَ كَلِمَةُ ٱلله» (أفسس 6: 17).
3. معرفة كلمة الله تجعل حياة القداسة ممكنة «خَبَأْتُ كَلَامَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلَا أُخْطِئَ إِلَيْك» (مزمور 119: 11).
4. الكتاب المقدس ينير المؤمن المسيحي ويرشده «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلَامُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مزمور 119: 105).
5. كلمة الله وحدها قادرة على صون الإنسان من الخطأ وتوفير معيار موضوعي يمكن به الفصل بين صحة وزيف أفكار البشر ومزاعمهم «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ ٱللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللهِ كَامِلًا، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح» (2تيموثاوس 3: 16، 17).
ب. التعامُل الصّحيح مع دِراسة الكِتَاب المُقدّس
إذا تعامل المرء مع كلمة الله من منطلق عقل يشك أو قلب لا يؤمن، فإنها لن تُسدّد احتياجه. إذا جاء بنفس يملكها الغضب تجاه الرب يسوع، فإنه لن يجد في الكتاب غذاءً لنفسه. صحيح أن الإنسان الذي يُنكر الإيمان يمكن أن يشعر بالتوبيخ حينما يقرأ الكتاب المقدس، وهو ما نشكر الله عليه، ولكن في حالة الإنسان الذي نال التوبيخ بالفعل، وصار إنسانًا مُخلَّصًا، فإن اتجاه قلبه سيُحدّد مدى النفع الذي يجنيه من دراسة الكتاب المقدس. يمكن تلخيص الاتجاه الصحيح من دراسة الكتاب المقدس في الكلمات التالية:
1. اعترف بالكلمة. على المرء أن يدع كلمة الله تدخل إلى عقله وقلبه. فمن الممكن أن يقرأ المرء الكتاب المقدس دون أن يعطي فرصة لمحتواه أن يتغلغل إلى كيانه، ولكنه إذا كان له أن ينتفع حقًا من دراسته للكتاب المقدس، فعليه أن يكون مستعدًا لكي يَدَع نفسه تنفتح أمام الكلمة المقدسة لتكون بمثابة ضيف يحل بثنايا قلبه.
2. اخضع للكلمة. ليس بالضرورة للإنسان أن يَقبَل ما يعترف به، فيجوز للمرء أن يتمسّك بعقل منغلق أو منفتح تجاه المعلومات التي يتلقاها. لذا، فالخطوة الثانية هي الخضوع، أي قبول المكتوب في الكلمة المقدسة لتعليمه. والقبول ليس قبولًا سلبيًا أو غير عقلاني، وإنما هو قبول نابع من الولادة الجديدة. ورغم ذلك، يجوز لإنسان اختبر الولادة الجديدة أن يتعامل مع الكتاب المقدس بدون اتجاه قلبي سِمته الخضوع. ولكن إذا ابتغى المرء بركة وعونًا ونموًا في دراسته للكلمة، فعليه أن يخضع لحق الكلمة.
3. التصق بالكلمة. ينبغي للحق أن يملك الإنسان من منطلق التزامه به، تمامًا كما يصير المرء مالكًا للحق حينما يقبله. على الإنسان أن يخبئ الكلمة في قلبه إلى أن تصبح جزءًا من حياته وخبرته الإنسانية. وهذا يتطلّب من الإنسان التمسُّك بالكلمة بواسطة الإيمان والاختبار العملي. فمثلًا عندما يأمر الله الإنسان ألا يسرق، على الإنسان أن يقبل الحق ويدع الحق يملك عليه فلا يسرق. هذا هو الاختبار العملي لفعالية الكتاب المقدس في حياة الإنسان.
4. شارك الكلمة. ينبغي للمرء حينما يتعامل مع الكتاب المقدس أن يكون مستعدًا لقبولها ونقل معرفته بها إلى الآخرين. للمرء أن يعرف أنه ربما ينال ما يصلح لبنيانه الشخصي، ولكن ينبغي له أن ينال هذه المعرفة حتى يبني آخرين. عليه أن ينقل للآخرين ما صار واقعًا واختبره شخصيًا. نقْل الكلمة للآخرين يعد قانونًا للحياة والنمو!
ج. رُوح دِراسة الكِتَاب المُقدّس
1. ينبغي للمؤمنين أن يفتحوا الكتاب المقدس بروح الورع والترقب، فهم يتعاملون مع كلمة الله لا مع مجرد كتابي عادي، وإنما كلمة تكشف فكر الله. إذا كان الله يتكلم، فلنا أن نثق في أن لديه أمرًا مهمًا يريد أن يخبرنا به. مَن يؤمن حقًا بالكتاب المقدس، فسيدرسه بجدية وشغف متوقد.
2. فضلًا عن ذلك، ينبغي للمؤمن المسيحي أن يكون شخصًا يصلح للتعلم، فهو يعلم أن الله يريد أن يعلمه دروسًا روحية، وعليه أن يكون منفتحًا للتعلم. هذا يقتضي من المؤمن أن يتصرف بوقار وتواضع وإخلاص، مما يثمر فيه طاعة للأوامر الكتابية التي يتعلمها.
3. لما كان الغرض من الكتاب المقدس هو تجسيد المسيح في حياتنا، فعلى كل دارس مجتهد للكتاب المقدس أن يدرس الكلمة بملء رغبة أن يعرف الرب يسوع معرفة أفضل. هذه الرغبة لن تضيع هباء؛ إذ كلما تعمق في تأمله للكلمة المقدسة، عَظُمت قيمة المُخلِّص في حياته.
د. القِراءة مُقابل الدّراسة
قراءة الكتاب المقدس نافعة، ولكنها تختلف عن دراسته من حيث أنها لا تتطلب بالضرورة منهجية، في حين لا يمكن أن تكون دراسة الكتاب المقدس فعالة ما لم تتبع منهجًا ما. كثيرًا ما يثقل ضمير المؤمن المسيحي بشعور عدم الإثمار في دراسته للكتاب المقدس. ولا ينبع هذا الشعور بالإخفاق عمومًا من غياب الرغبة ولا ضيق الوقت ولا حتى رفض قراءة الكتاب المقدس، وإنما غياب المنهج.
وجود منهج لدراسة الكتاب المقدس أمر مهم إذا رغب المرء في تحقيق أفضل النتائج. ويعتمد اختيار المنهج أو الأسلوب على التفضيل الشخصي، وإن كان يجب على المرء أن يستعين بمعظم منهجيات دراسة الكتاب المقدس التالية إن لم يكن جميعها.
ه. منهجيّات دِراسة الكِتَاب المُقدّس
1. دراسة سِفْر. الكتاب المقدس يجمع مكتبة من الأسفار (أو الكتب)، كل منها يرتبط بالكتب الأخرى. تُشكِّل هذه الكتب معًا كتابًا واحدًا موحدًا. رغم أن كل سفر كُتب بواسطة نبي أو رسول في سياق تاريخي معين، فإن وحدة إلهية تربط هذا السفر بالكتاب كله. بعض الأسفار تاريخي، وبعضها شعري، والبعض الآخر تعليمي. ولكن لا يُعد أيٌ من هذه الأسفار كاملًا بدون بقيتها. دراسة سفر بمفرده لها نفعها لا سيما حينما يُنظر للسفر من حيث ارتباطه ببقية الكتب المقدس وسائر أجزاء العقيدة الموجودة في الكتاب والتطور التدريجي لإعلان الحق الكتابي. من الجوانب الجديرة بالدراسة السياق التاريخي لكل سفر، وكاتبه، والغرض منه، ومخططه العام. هذا النوع من الدراسة يحول دون تجزئة الكلمة والتعامل معها من منطلق عفوي أحادي الجانب، فهي منهجية نظامية تتيح للدارس فرصة للتركيز وتضفي ترتيبًا على دراسته.
2. دراسة موضوع. يكشف هذا النوع من الدراسة الحق الإلهي متتبعًا إعلانه ليس في سفر واحد، وإنما في كافة الأسفار. على سبيل المثال، يمكن تتبع كلمة «محبة» ومشتقاتها في جميع المواضع التي وردت بها في الكتاب المقدس، ومن واقع دراسة المفهوم تتطور أفكار من شأنها أن تنفع الدارس وأولئك الذين يتعامل معهم. عقائد مهمة مثل النعمة، اليقين، الإيمان، الصلاة تعتبر موضوعات جيدة يمكن دراستها بهذه المنهجية. على سبيل المثال، في حالة الصلاة، ستكشف الدراسة على سبيل المثال مبادئ الصلاة، وامتيازاتها، وأشكالها، والمواعيد المرتبطة بها، وممارستها. كل مؤمن سيجد هذا النوع من الدراسة نافعًا للبناء.
3. دراسة شخصية كتابية. تحفل حياة الرجال والنساء في الكتاب المقدس بمضمون تعليمي وأحيانًا مثير أو مشوب بالإثارة. يروي الكتاب المقدس الكثير عن أشخاص معينين، ويمكن للدارس أن ينتفع من دراسته لسيرة هؤلاء الأشخاص. فعندما يبحث المرء في الكتاب المقدس يجد موسى وإبراهيم وسارة وشمشون وشاول ويسوع وبولس وبطرس وألفًا غيرهم، ويتقابل الدارس مع هؤلاء كما هم، ويلاحظ أفعالهم، الصالح منها أو الطالح، بينما يمرون أمام عينيه على صفحات الكتاب. يمكن للمرء أن يدرس عمل العدل الإلهي ودوره في دفع ثمن الخطية، ويمكنه أن يشهد الخلاص وهو يفتقد خطاةً، ويلاحظ ارتداد البشر وتوبتهم واستردادهم. ما من إنسان يعيش حياة بدون ثمر تمامًا، ولكن مَن يمضي وقتًا في دراسة هذه الحياة على ضوء علاقة الإنسان بالله وبغيره من البشر سيجد مكافأة.
4. أساليب أخرى لدراسة الكتاب المقدس. يمكن للمرء أن يدرس مقاطع كتابية رائعة مثل 1كورنثوس 13، رومية 8، عبرانيين 12، يوحنا 1، بل يمكنه دراسة فقرات أو جمل أو حتى آيات بعينها. هذا المنهج يعد نموذجًا مُصغَّرًا لدراسة سِفْر بأكمله عبر دراسة مقاطع أصغر حجمًا. يتيح هذا الأسلوب فحص واستعراض واستيعاب أصحاحات فرادى بدون الخوض في دراسة مفصلة لسِفْر كامل. ولكن هذا النوع من دراسة الكتاب المقدس محفوف بالمخاطر، إذ يمكن أن يؤدي إلى تفسيرٍ هاوٍ أو سطحيٍ. يجب أن يتذكر المرء أن عليه ألا يكتفي بتذوق كلمة الله أو تصفحها أو التجول فيها وإنما أن يدرسها بجدية واجتهاد.