يا ربّ: الصِحّة والستر! هكذا يهتف المصريّون في أحاديثهم في الليل والنهار. فالصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى! والصِحّة هي أثمن ما يُرزَق به الإنسان على الإطلاق، وأكثر الناس اقتناعًا بذلك هم الذين عانوا من قسوة المرض ومرارته وذُلّه. وفي المرض يختبر الإنسان معاني الشعور بالضعف والعجز والشدّة والألم والمحنة، ممّا يجعل الإنسان أكثر قُربًا إلى الركوع والتضرُّع والابتهال والتذلل حتى ينصرف المرض أو يلقى المرءُ حتفَه دُونه! ياله من أمر جلل ويالها من كارثة حين يمرض الإنسان!
والمرض غالبًا ما يكون قرين الفقر! ففي المرض يُنفق الإنسان أموالَه رخيصةً في سبيل استعادة الصحّة وراحة الجسد. وقد يصل الأمر إلى حد الاستدانة من الآخرين من أجل الحُصول على الدواء. لذا، فمن ضمن أفضل دعواتنا أحدنا للآخر الدعاء بالصحّة ونعمة العافية.
في هذا المقال نلتقي مع طبيب ماهر .. بل مع طبيب الأطباء! إنَّه الطبيب القادر على كُل شيء .. صاحبُ اليد المقتدرة واللمسة الشافية الحانية .. إنّه الرب يسوع المسيح. لقد شفى المسيح امرأةً كانت تُعاني من نزيف حاد لمدّة اثنتيّ عشرة سنة، لذا كثيرًا ما يقول الوعّاظ والقسوس وخُدّام الإنجيل إن بطل هذه القصّة هي «المرأة نازفة الدم» لكنني في الحقيقة لا أرى في هذه السيدة المسكينة إلا «مفعولًا به»، أمّا بطل القصّة الحقيقيّ فهو الرب يسوع الذي لمس جسدها فأبرأها من مرضها وعلّتها.
كتب البشير مرقس قائلًا:
«وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَرْدَأَ. لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي الْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، لأَنَّهَا قَالَتْ:«إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ الْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ الْجَمْعِ شَاعِرًا فِي نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ:«مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» فَقَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:«أَنْتَ تَنْظُرُ الْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ: مَنْ لَمَسَنِي؟» وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى الَّتِي فَعَلَتْ هذَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ الْحَقَّ كُلَّهُ. فَقَالَ لَهَا: «يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اذْهَبِي بِسَلاَمٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ» (مَرْقُس 5: ٢٥- ٣٤).
يقدِّم لنا البشير مرقس حال هذه المرأة المريضة في حال المرض،
ثُم يُقدِّم لنا لقاءها بيسوع ..
وأخيرًا يكشف لنا عن بركات هذا اللقاء المجيد مع المسيح.
كيف كان حال المرأة طوال اثنتي عشرة سنة قبل لقاءها بالمسيح؟
- لقد عاشت هذه المرأة مرارةَ المرض كما لم يختبره أحدٌ آخرّ. هل يمكن أن يتصوَّر القارئ العزيز شخصًا يُعاني من نزيف حاد لمدَّة سنة، أو حتى شهر، بل يوم واحد؟! لقد عانت المرأة مرارةَ النزيف لمدة اثنتيّ عشرة سنة!
- ساهم الأطباء في زيادة مُعاناة هذه المرأة! صحيح أنَّنا نُسمّي الأطباء بـ «ملائكة الرحمة» وكثيرٌ من الأطباء هم كذلك بالفعل ويستحقون الشكر لله من أجل وجودهم. لكن هناك دائمًا في كل عصرٍ وفي كل جيل، أطباءً قُساةَ القلوب لا يهتّمون لأمر المريض إلا بقدر ما ينتفعون من ورائه ماديًا. إنهم لا يستحقون لقب «أطباء» لأنَّ المريض بالنسبة لهم هو مُجرّد «حالة» أو بالتعبير المصري «سبّوبة» لا قيمة له ولا لصحّته، وقيمة المريض في نظرهم لا تتعدّى جيبه!
- وهكذا صارت المرأة إلى حالٍ أردأ! فالصحّةُ ضائِعة، والجسدُ مُجرّد حقل تجارب ليس إلا! والجيبُ خاوٍ، والأمل في العلاج تضاءل مع طول مُدّة المرض حتى تلاشى بالتمام. يا لها من مأساة بكل المقاييس!
ماذا فعلت هذه المرأة؟
- لقد سمعت بيسوع: هذه هي الخُطوة الأولى من خطوات الإيمان؛ أن يسمع الإنسانُ صوتَ الله. قال المرنِّم قديمًا: «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبَكم» (مزمور 95). وحذَّر إشعياء النبي شعبه في القديم قائلًا: «إن شئتُم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتُم وتمردتم تُؤكلون بالسيف، لأن فم الرب يتكلَّم» (إشعياء 1: 18). ويقف المسيح خلف بابِ القلب ليدعو الإنسان للتوبة «ها أنا ذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي» (الرؤيا 3: 21). وقال المسيح أيضًا: «خرافي تسمع صوتي .. تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياةً أبديّة، ولن تهلك إلى الأبد» (يوحنا 10: 27). لهذا قال الكتاب: «أليس الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش؟». إن الاستماع هُنا لا يعني مجرّد استخدام الأُذن، بل معناه الاستماع الواعي المصحوب بالطاعة والخُضوع. ليت كلٌّ من يسمع بيسوع، يُصغي لكلامه ويطيع وصاياه!
- جاءت إلى يسوع: لقد سمعت هذه المرأة بيسوع فلم تتوانِ، بل أخذت المبادرة وجاءت إليه. والمجيء إلى يسوع هو الخُطوة الثانية من خُطوات الإيمان. فأن تسمع بيسوع فهذا امتياز. فما أكثر من يتمنّون سماع صوته المبارك! أمّا أن تأتي ليسوع فهذه مسؤوليتك أنت. إنّ الدعوة قائمة والباب مفتوح. قال الله قديمًا لشعبه «التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الرب وليس آخر» (إشعياء ٤٤: ٢٢). وقال الرب يسوع: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متّى 11: 28). ودعا الجمع قائلًا: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي». وبلغة التأكيد واليقين والتشجيع قال الرب يسوع «من يُقبل إليّ لا أُخرجه خارجًا» (يوحنا 6: 35 ب). إنها مسؤوليتُنا أن نلتفت لنداءات محبّة الله، وأن نأتي إلى المسيح، وأن نطلب شفاءَه ومراحمه.
- لمست هُدب ثوبه: أما الخُطوة الثالثة في رحلة إيمان هذه المرأة فقد عبَّرت عنها بالقول: «إن مسستُ ولو ثيابه شُفيت». إنَّ الثوب في حد ذاته لا شفاءَ فيه ولا قوّة له، لأن ربَّ الشفاء وصاحبَه هو يسوع المسيح، أمّا وسيلة الحُصول على شفاء يسوع فهي الإيمان بقُدرة يسوع الشافية، واليقين بمحبته التي ترغب في منح هذا الشفاء. وهذا الإيمان وذلك اليقين هو وسيلة الحُصول على الشفاء، بل إنه وسيلة الحُصول على كل البركات الإلهيّة. فيد النعمة الإلهيّة تُعطي، ويد الإيمان البشريّ تمتدُ لتأخذ. إن الله يتنازل لجميع البشر ببركاته، لكن لا ينال شيئًا من هذه البركات إلا من وضع ثقته في شخص المسيح.
عزيزي، اسمح لي قبل أن أسترسل في الكلام أن أسألك:
هل ترغب في المجيء إلى يسوع؟
هل تضع ثقتك فيه؟
هل كرهت نفسُك مذلّةَ الاغتراب عن الله وحياةَ الابتعاد؟
تعال إليه من خلال المسيح. إن الله ينتظرك.
أخيرًا وبعد طولِ انتظار، نالت المرأةُ من المسيح سُولَ قلبِها، بل لقد باركها المسيح بأكثر ممّا كانت تحلم به:
- قال يسوع للمرأة «إيمانك قد شفاك» أي أن إيمانَ هذه المرأة بالمسيح كان السبب المباشر الذي حرّك اليد الإلهيّة القديرة لكي تردَّ للجسد الواهن عافيتَه من جديد، ويؤكِّد هذا القول شفاءها بالتمام. ومع أنّ المسيحَ ينسبُ شفاءَ المرأة إلى إيمانها، إلا أن الإيمان في نظر كُتّاب العهد الجديد ليس مجرَّد خبرة ذاتيّة بل هو شيء يستمدّ قوتّه من الشيء (أو الشخص) الذي توضع الثقة فيه. إن الإيمان هو اختبار رُوحيّ يبدأ بمُغامرة روحيّة، أمّا مُؤسِّس الإيمان ومنشؤه في قلب الإنسان فهو الله.
- إنّ الكلمة المستخدمة هنا للتعبير عن الشفاء تفيد أيضًا «الخلاص من المرض» (متّى 9: 22) وهي نفس الكلمة التي يستخدمها البشيرون للتعبير عن الخلاص من الخطية، بما يُوحي بأن إيمان المرأة بالمسيح قد قادها غالبًا إلى الحُصول أيضًا على الخلاص الروحيّ. يزداد هذا الأمر وضوحًا من قول المسيح المبارك لها: «اذهبي بسلام» (آية ٣٤).
- أما البركة الثالثة التي نالتها هذه السيدة المسكينة فهي أعظم بركة، بل هي تتويجٌ للبركتيْن السابقتيْن. قال لها المسيح: «كوني صحيحة من دائك»، وهو بهذا القول يتكلّم كالطبيب الماهر الواثق من الشفاء الذي يُطمئن مريضه من جهة المستقبل. لك المجد يا رب!
صديقي القارئ،
هل تعبت من المرض؟
هل اعتلال الصحّة أنهك قواك النفسيّة والروحيّة؟
لديّ خبرٌ طيّب لك: إن يسوع المسيح هو هو، أمسًا واليوم وإلى الأبد (العبرانيين ١٣: ٨). المسيح قام من بين الأموات، وهو حيّ إلى أبد الآبدين، وهو هنا والآن قادر وراغب أن يشفيك. اسعَ إليه. ارفع قلبك نحوه. تعال ليسوع .. أقبل إلى يسوع .. في يسوع تجد البركة والنعمة والفداء .. في يسوع تنال الراحة والصحّة والشفاء. اطلب منه أن يتمجّد في جسدك، وانتظر إجابته على صلواتك.
حالًا تعالوْا إلى المسيح
يا من تعبتُم بحملكم
فهو الذي لطفُه يُريح
من حملُه ثقيل
كُلُّ من يختارُ ذا المسيح
ملجًأ له فيستريح
يحيا سعيدًا مُزينًا
ببرِّه الصريح