هناك لحظات تتجلّى فيها الحقيقةُ عاريةً مهما حاول البشر إخفاءَها. ويقول علماء النفس إن الحقيقة تظهر في فلتاتِ اللسان، وفي الأحلام، وفي ساعات الغضب الشديد. في هذه الأثناء لا يتمكّن الإنسان عادة من التصنُّع ولا من التعامل بدبلوماسيّة تنتصر للعقل وتعليّه فوق المشاعر الهائجة. وفي العلاقات الإنسانية التي تسود بين الأصدقاء والأحباب هناك مواقف تُظهِر المعدن الأصيل للصداقة وطبائعَ المُحبّين وخصالَهم ومواطن قُوتّهم أو ضعفهم. وينصح المصريّون في أمثالهم الشعبية بالقول: «لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنة وست أشهر». على اعتبار أن سنة وستة أشهر هي الحد الأدنى للمُدّة التي تكفي الإنسان لكي يتعرّف على مميزات أحبائه وأصدقائه، وعيوبهم.
ولقد عاش التلاميذ الحواريّون مع المسيح مدّة تزيد عن ثلاث سنوات، رأوا خلال هذه السنوات معجزاته العظيمة، وتلامسوا مع قداسته المطلقة، وعاينوا آياتِ محبّته وحُنوه ورحمته على الضُعفاء والمُهمَّشين من البشر. كان التلاميذُ أسعدَ البشر إذ تحقَّق لهم كلام المسيح: «إن أنبياءَ كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم تروْن ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا، ولكن طوبى لعُيونكم لأنّها تبصر، وطوبى لآذانكم لأنها تسمع» (متّى ١٣: ١٧). لقد رأوْا الله الذي تجسّد بشرًا، إذ في المسيح «سُرَّ أن يحل كل ملء لاهوت الله جسديّا» (كولوسي ١: ١٩).
لكن بعد ستة أيام من الحوار الساخن الذي دونه لنا البشير متّى في أصحاح ١٦، هذا الحوار الذي دار بين بطرس والمسيح حول ضرورة الصليب لفداء البشر، ارتأى الرب يسوع أن يكشف لتلاميذه لمحةً من مجده الأسمى؛ مجد ألوهيته وكينونته مع الآب والروح القدس في جوهر الألوهيّة الواحد. يكتب لنا البشير متّى قائلًا:
«وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ». وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا». فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَه» (متى ١٧: ١- ٨).
يكشف لنا البشير متّى من خلال هذا الحوار عن عدّة حقائق في غاية الأهمية:
إنَّ المسيح كشف عن هُويّته لثلاثة فقط من تلاميذه الاثني عشر اختصهم وحدهم بهذا الإعلان السماوي «وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِين» (١٧: ١). وقد يسأل القارئ العزيز: «ولماذا كشف المسيح عن هُويّته ومجده لهؤلاء التلاميذ الثلاثة بالذات دون غيرهم من التلاميذ». وللإجابة عن هذا السؤال أقول إن الملك لا يُسأل عمّا يفعل؛ فلقد اختار المسيح الملك هؤلاء التلاميذ منفردين، واصطحبهم وحدهم إلى الجبل حيث عاينوا مجده، فطُوباهم وهنيئًا لهم!
لكنني على يقين إن الرب قد اختار ثلاثةً من الحواريين الأطهار لأنّه مكتوب «على فم شاهدين أو ثلاثة شهود» يقوم كل خبر أو تتأكّد كُل حادِثة. لذا كان وُجود ثلاثة من تلاميذ المسيح معه أمر مُهم، لتأكيد الشهادة التي سيُقدّمها التلاميذ عن سيدهم للعالم كله فيما بعد. السُؤال هُنا: هل قام التلاميذ بالفعل بالشهادة عن المسيح كما رأوه في ذلك اليوم؟ نعم. اسمع ما كتبه الرسول بطرس في رسالته الثانية: «فَأَجْتَهِدُ أَيْضًا أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي، تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهذِهِ الأُمُورِ. لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ» وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلًا مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُم» (٢بطرس ١: ١٥- ٢٠).
قال الرسول بطرس إذًا إنه مع التلميذيْن الآخريْن كانوا جميعًا «مُعاينين عظمته» (٢بطرس ١: ١٦). كيف حدث ذلك؟ يكتب البشير متّى قائلًا: «وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَه». ما معنى هذا؟ معناه الواضح والبسيط أن هناك شهادة ثُلاثيّة قيلت في المسيح:
(أ) إنَّ لمحة من الأصل الإلهيّ للمسيح قد انكشفت للتلاميذ، فتغيُّر هيئةِ المسيح، ووجهُه الذي أضاء مثل الشمس، وثيابُه التي أضاءت مثل النور، كُلّها مظاهر تتشابه في جوهرها وفي صياغتها مع اللغة التي يستخدمها أنبياء العهد القديم ورُسُل العهد الجديد للتعبير عن الله «الساكن في نور لا يُدنى منه» (١تيموثاوس ٦: ١٦)، الذي لا يمكن أن يراه الإنسان في مجده وقداسته ونوره الأسنى. ولو حدث لهلك الإنسان بسبب خطاياه.
(ب) إنَّ موسى قد ظهر ليسوع وتكلِّم معه على جبل التجليّ. في هذا الظُهور نرى أمانةَ الله لموسى الذي منعتُه خطيتُه من نوال الوعد والدخولِ إلى أرض الميعاد. ها هو الله يستجيب لتضرُّع موسى بعد ألف وخمسمائة سنة من الصلاة فيُرى في أورشليم مع ابن الله الموعود بمجيئه، لكن الأهم من ذلك أن موسى أيضَا، هو مُمثل الناموس الذي يشهد عن خطايا البشر ويدينهم. ها هو موسى يرى حمل الله الذي يرفع خطية العالم (يوحنا ١: ١٩).
(ج) أمّا إيليا فقد ظهر نائبًا عن كلّ أنبياء العهد القديم لكي يُظهِر السرورَ البشريّ بما يزمع المسيح أن يفعل قريبًا، حينما يدخل المخلص إلى أورشليم، للمرّة الأخيرة، لكي يحقِّق الغرض الإلهيّ في فداء البشر بصلبه وقيامته. نعم: «له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يومن به –أي بالمسيح- ينال باسمه غفران الخطايا» (أعمال الرسل ١٠: ٤٣).
ما تأثير هذه الرؤيا السماويّة التي انكشفت فيها حُجُب الغيب لوهلة عن قلوب التلاميذ؟ يقول البشير: «فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ» (متّى ١٧: ٤). لقد ظنَّ بُطرس أن البقاء الدائم على الجبل سيكون، ولا شك، أمرًا رائعًا جدًا. ولو وافق المسيح على رغبته فلا بد أنهم سيحتاجون إلى خيام لتحميهم من التقلبات الجويّة. وهنا تفتّق ذهن بطرس عن فكرة عبقرية: «لماذا لا نصنع ثلاث خيام للأنبياء العظام: موسى وإيليا ويسوع، أمّا نحن، بطرس ويعقوب ويوحنا، فنحن مُستعدون لتحمل الجو السيئ بدلًا منكم؟ إنّ موسى نبي، وإيليا نبي، والمسيح نبي! أليس كذلك؟! لا ليس الأمر كذلك، فهنا:
هنا حدث ما لم يكن متوقَّعا أبدًا، ولم يكن ولا في البال ولا في الخاطر –كما يقول المصريّون. «فَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». لقد تكلمّت السماء وسمِع التلاميذُ صوتَ الله الآب بنفسه، يشهد عن ابنه المعبود المبارك. نعم «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررّت». إنَّ موسى كان نبيًا عظيمًا لله، خَدَمَ جيلَه بكل أمانة، ولقد استخدمه الله ليُخرِج بني شعبه من تحت يد فرعون الشديدة، ومن العبوديّة المُرّة. وزاد على ذلك فاستخدمه الله مُشرَّعًا عظيمًا لا مثيل له. يُمكننا أن نقول عن عظمة موسى الكثير والكثير، لكن مهما قلنا يبقى المسيح «رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ، حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ. فَإِنَّ المسيح قَدْ حُسِبَ أَهْلًا لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى، بِمِقْدَارِ مَا لِبَانِي الْبَيْتِ مِنْ كَرَامَةٍ أَكْثَرَ مِنَ الْبَيْتِ. لأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَبْنِيهِ إِنْسَانٌ مَا، وَلكِنَّ بَانِيَ الْكُلِّ هُوَ اللهُ. وَمُوسَى كَانَ أَمِينًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَابْنٍ عَلَى بَيْتِهِ. وَبَيْتُهُ نَحْنُ إِنْ تَمَسَّكْنَا بِثِقَةِ الرَّجَاءِ وَافْتِخَارِهِ ثَابِتَةً إِلَى النِّهَايَة» (العبرانيين ٣: ١- ٦).
وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا». فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَه» (متّى ١٧: ٧- ٨). رفعوا عيونَهم ولم يروْا إلا يسوعَ وحدَه. يسوع وحده هو ابن الله، الواحِد مع الآب في الجوهر. إنَّ يسوع من ذات جوهر الله، أمّا الأنبياء، فرغم عظمتهم، إلا أنّهم من جنس آخر هو جنس البشر. إنّ يسوع الذي أخذ طبيعتنا بالتجسُّد لم يكف عن أن يكون الله إذ هو متّحد مع الآب والروح القدس في جوهر الإله الواحد الذي نعبده. نحن كمسيحيين نؤمن بإله واحد. لا إله إلا الله. هذا الإله موجودٌ بذاته (الآب)، ناطق بكلمته (الابن)، حيٌّ بروحه (الروح القدس). نحن نؤمن بالله الواحد المثلث الأقانيم: الآب والابن والروح القدس الإله الواحد .. آمين.
صديقي القارئ العزيز: إنّ يسوعَ المسيح هو «بهاءُ مجدِ الله، ورسمُ جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، قَبِلَ أن يصير إنسانًا ليصنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا» (العبرانيين ١: ١-٤). فهل تؤمن به؟ إنّ المسيحيّين يؤمنون به لكونه الله المتجسّد، أما أنت فلعلك تؤمن أنّه «المعيّن ديّانًا للأحياء والأموات» .. لذا فمهما كانت نوعية إيمانك بالمسيح، فلا بد أن تتأكَّد أن هذا الإيمان سوف يُحدِّد مصيرك الأبدي.
قل له:
يا سيدي المسيح
اكشف عن عينيّ كل غشاوة
وأزل من قلبي كل غباوة
حتى أتمكّن من أن أعرفك
فأنت الحياة
وأن أعرفك معناه أن أقتني الحياة
لأجل اسمك، أجبني. آمين