من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا
تأليف
ريتشارد بوكهام
ترجمة
أشرف بشاي
إنّ الأهميّة الفائقة التي يُوليها يُوحنّا الرّائي للكرستولوجي في رُؤياه تعكس هذه الحقيقة: ما يفعله الله يفعله يسُوع أيضًا. فلأنّ يسُوع يُشارك الآب ذات الجوهر الإلهيّ لذا فإنّ ما قاله يسُوع بخصوص الخلاص والدّينونة لا يقّل أبدًا، حقًّا وصدقًا، عمّا قيل إنّه يقع في دائرة سلطان ذاك «الجالس على العرش». يُرى هذا الأمر بوضوح في موضوع «الظّهور parousia».
لقد درسنا في الفصل السّابق الألقاب أو التسميات التي تتعلّق بأبديّة الله: «الكائن، والّذي كان، والّذي يأتي» (1: 4، 8 قارن أيضًا 4: 8)، والتعبير «الّذي يأتي» يُعبّر عن المستقبل الإلهيّ (ho erchomenos). ويُنظر إلى المستقبل الإلهيّ في حقيقة مجيء الله اسخاتولوجيًّا إلى العالم للخلاص وللدينونة. لكن هذا «المجيء» الإلهيّ للعالم من أجل إتمام المقاصد الإلهيّة في الخليقة هو بذاته المجيء الثاني للمسيح لا أكثر ولا أقل. وبخصوص هذا المجيء الثاني للمسيح الّذي سيحدث في مجد، لا يستخدم سفر الرُؤيا التسمية «ظهور» وهي التسمية المُعتادة في أجزاء أخرى كثيرة في العهد الجديد، بل يستخدم الرّائي، عادةً، لفظة «الّذي يأتي». إنّ رجاء المجيء الثاني الوشيك للمسيح (والتحذير منه) يُسيطر على كلّ سفر الرُؤيا (1: 7؛ 2: 5، 16؛3:3، 11؛ 16: 15؛ 22: 7، 12، 20). ويُعلن المسيح سبع مرّاتٍ في سفر الرُؤيا: «ها أنا آتٍ سريعًا» (erchomai: 2: 5، 16؛ 3: 11؛ 16: 15؛ 22: 6، 12، 20).
إنّ الدّينونة التي سيصنعها المسيح عند مجيئه هي -بكلّ يقين- دينونة إلهيّة. فعلى سبيل المثال، فإنّ رُؤيا 22: 12 تأتي في سياق اقتباس النبوة الواردة في إشعياء 40: 10؛ 62: 11 تلك النبوة التي استخدمها المسيحيّون الأوائل عند التعبير عن مجيء الله للدينونة والقضاء. لقد أشار المسيحيّون إلى هذه النبوة عند الكلام عن ظهور المسيح (أي عند مجيئه ثانية)، وتوسّعوا في شرح مضامينها إذ أشاروا إلى أنّ الله سوف «يرد لكُلّ واحد حسب عمله» كما يقول كاتب سفر الأمثال في 24: 12 (قارن متّى 16: 27؛ كليمنت 34: 3؛ كليمنت الثانية 17: 4). فإذا كانت الدّينونة التي سيقوم بها المسيح عند ظهوره هي دينونة الله بالّذات، فإنّ نفس المبدأ أيضًا يُمكن أن ينسحب على موته البدليّ (وهذا الموت هو أحد الرّكائز الأساسيّة جدًا في سفر الرُؤيا). لذا فحينما يُرى الحمل المذبوح في وسط العرش الإلهيّ في السّماء (5: 6 مع 7: 17)، فإنّ دلالة ذلك أنّ موت المسيح الكفّاريّ هو عملٌ يدخل في إطار حُكم الله على العالم. إنّ تعبير «الحمل» كرمز إلهيّ للمسيح لا يقلُ أهميّة عن تعبير «الجالس على العرش». لقد درسنا في الفصل السّابق أبعاد التسمية «الجالس على العرش» في السّماء من منظور عالمٍ تُسيطر عليه قُوى الشّر. فبينما تتحكّم القوى الشّريرة في مصائر الأرضيين، فإنّ الله «الجالس على العرش» في السّماء يجب أن يأخذ كُلّ انتباهنا كسيّد أوحد وحيد هناك. حتى تلك الدّينونة التي تُمارس كتعبير عن طبيعته البارّة في السّماء، والتي تهدف إلى استحضار ملكوت الله وحكمه على الأرض من خلال تدمير الشّر، فإنّها تنبعث من الله، بطريقة غير مباشرة ومن خلال وُسطاء ملائكيين. أمّا إذا كان الله غير حاضرٍ في العالم باعتباره «الجالس على العرش»، فإنّه يُقدّم باعتباره الحمل الّذي انتصر بالآلام. في الحقيقة إنّ شهادة آلام المسيح وموته الكفّاريّ، كما سنرى، هُما الحدث المفتاح في انتصار الله على الشّر وفي تأسيس ملكوته على الأرض. إنّ تأسيس ملكوت الله وحُكمه على الأرض هو الهدف الأكثر وضوحًا من الدّينونات الصّادرة عن العرش السّماويّ. وأكثر من ذلك فحضور المسيح، الماشي بين السّبع المنائر الذّهبيّة (1: 13؛ 2: 1)، مع شعبه الّذي يستمر في الشّهادة له ويضحي في سبيل إتمام هذه الشّهادة هو أيضًا حضورٌ إلهيٌّ.
يترتّب على كُلّ ما سبق أنّ الكرستولوجي الوارد في سفر الرُؤيا ينبغي إدراجُه هُنا لتحقيق المزيد من الفهم لشخصيّة الله كما درسناها في الفصل السّابق. لقد ارتبط الله بالعالم، ليس فقط باعتباره الإله السّامي المُتعالي، بل أيضًا باعتباره الحمل المذبوح.