دراسة في سفر إرميا الفصل ٣١
«وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد»
بقلم تيموثي م. ويليس – جامعة بيبرداين
ترجمة القس أشرف بشاي
تحليل مختصَر للفعليْن: «يغفر»، «يتذكر»
إن جانبًا آخر من إعادة تقييم عبارة: «ذِكْرُ خَطَايَا» في العهديْن يكمن في المعنى الأصلي الذي كان في ذهن إرميا عند حديثه عن «بروڤة» الملامح المميِّزة للعهد الجديد. تقع نبوة إرميا في قسميْن؛ عدديْن يخدمان فكرة العهد الجديد (31، 32)، وعدديْن آخريْن يصفان الملامح الأساسيّة الرئيسيّة لهذا العهد (33، 34). هذه الملامح تُرسَم بطريقة شعريّة في أربعة أزواج من السطور المتوازية. إن الملمح الأخير (المُتعلّق بغفران الخطايا)، والذي يبدأ بالتأكيد «لأن (في كلمة لأني)» يُوجِّه بعض المفسرين إلى أن الجملتيْن المتعلقتيْن بالغفران يشكِّلان معًا الأساسَ للثلاثة الأزواج السابقة من العبارات. بكلمات أخرى، إنه الغفران الإلهي الذي يجعل العهد الجديد متاحًا أمام شعب الرب.[1]
إن إرميا يضع أمامنا ملامح الغفران في العهد الجديد في صورة شعريّة شيّقة ورشيقة، مستخدمًا صورة التوازي التي تتكوّن من أ ب ب أ «لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد». وبمعرفة بسيطة لخصائص الشعر العبري نكتشف أن «أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِم»، «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد». يعبِّران عن نفس الفكرة ذاتها. إنه تقديم المفهوم ذاته مرتيْن بكلماتٍ مترادفة تقريبًا. بأكثر دقة، إن السطريْن مظهران اثنان يكمِّل أحدُهما الآخر داخل إطار الفكرة الواحدة (لاحظ أيضًا العبرانيين 10: 17، 18).
والتعبير الذي يستخدمه إرميا في هذه السطور له سوابق استخدام في العهد القديم، فغفران الخطيّة والصفح عن التعديات عادة ما يقترنان بالنعمة، والرحمة، والحب الثابت غير المتغيِّر، وكلها تشكِّل صفاتٍ إلهيّة ثابتة (الخروج 34: 6، 7؛ العدد 14: 17- 19؛ مزمور 103: 10- 12؛ ميخا 7: 18 -20) بل إن هوشع النبي يتحدث مرتيْن عن تذكر الرب للخطيّة جنبًا إلى جنب مع عقاب الخطيّة (هوشع 8: 13، 9:9)، وفيما سبق كانت أفكار النبي أيضًا محصورة في الذبيحة:
«أَمَّا ذَبَائِحُ تَقْدِمَاتِي
فَيَذْبَحُونَ لَحْمًا وَيَأْكُلُونَ.
الرَّبُّ لاَ يَرْتَضِيهَا.
الآنَ يَذْكُرُ إِثْمَهُمْ وَيُعَاقِبُ خَطِيَّتَهُم».
أود أن أذكر ملاحظتيْن هنا؛ أُولاهما أن تعبير «يذكر إثمهم»، «يعاقب خطاياهم» هما مترادفان لفكرتيْن متوازيتيْن. إن الدليل على أن الله «يتذكّر» الفعل الشرير هو «العقاب» الموضوع لمرتكب هذا الفعل. هناك مزموران يعكس كلٌ منهما جانبًا واحدًا من هذه الفكرة، وهما يحملان رجاءً وطلبًا للغفران من خلال عدم ذِكر الخطيّة ونسيان الذنوب كمترادفيْن يحتويان إظهارات لرحمة الرب ولطفه (مزمور 25: 7؛ مزمور 79: 8). إن الدليل على أن الله لا «يتذكّر» خطايا المرنِّم هو غياب العقاب الذي يستحقه الخاطئ. أما ثانيتهما، فتؤكّد كلمات هوشع أن الرب يمكن أن يقبل من البشر الذبائح التي يقدِّمونها بطريقة تجعله «لا يتذكّر تعدياتهم، ولا يعاقب خطاياهم». هذه العبارة تؤكِّد أن هوشع وقراءه قد افترضوا وجود علاقة مباشرة تربط بين الذبيحة من ناحية وغفران الخطايا من ناحيّة أخرى، تمامًا كما هو واضح من قوانين سفر اللاويين (لاحظ مرة ثانية اللاويين 16: 20- 24؛19: 20-22؛ العدد 15: 22- 31). لقد لاحظ العلماء تشابهات عديدة بين تعليم هوشع وتعليم إرميا، لذا لا يفاجئنا أن إرميا يستخدم نسق أفكارٍ مشابه لما ورد في هوشع عن الغفران. في إرميا 14: 10 يحذِّر النبي سامعيه غير التائبين من تذكُّر الله لخطاياهم، تمامًا بنفس مفهوم الرائي في العهد الجديد: «لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحِقَتِ السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا» (الرؤيا 18: 5). وعلى الجانب الآخر لهذا الإعلان، فإن الرب يصرِّح قائلاً إنه «لا يقبل» هذا الشعب مع أنهم «يُصْعِدُونَ مُحْرَقَةً وَتَقْدِمَة» (إرميا 14: 10-12). ونظير هوشع، يجد إرميا الرابطة المباشرة بين الغفران والذبيحة. إن حزقيال يتحدث، في تعبيرات مشابهة، عندما يعلن أن الرب سوف لا «يتذكّر» أعمال البر التي صنعها أولئك الذين تحوّلوا أخيرًا عن البر ليرتكبوا التعديات (وآية ذلك أنه لن يباركهم) وكذا، سوف لا «يتذكّر» خطايا هؤلاء الذين تابوا من القلب (وبرهان ذلك أنه لن يعاقبهم) (حزقيال 33: 13-16).[2]
إن هذه الفقرات الكتابيّة توضِّح المعاني التي يقصدها إرميا عند استخدامه «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد» في وصفه للعهد الجديد. هذا التعبير يتوازى مع «لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِم». وكلا العبارتيْن تظهران جانبًا من جانبيّ الفكرة الواحدة. حرفيًا، إن الله سوف يغفر خطايا شعبه ولن يعاقبه على آثامه. وباختصار، فإن إرميا 31: 34 يتناغم والمقاطعَ الأخرى ويتسّق معها، في إرميا والمزامير وهوشع وحزقيال، التي تعالج المناسبات التي «غفر» الله فيها لشعبه «ونسي» خطاياهم. هذا هو ما يقصده كُتّاب الوحي حينما يتكلّمون عن الاختيار الإلهي الرحيم لطرح العقاب جانبًا. إن مقاطع الخروج والعدد والمزامير وميخا تفترض أن هذا توجّه إلهي دائمٌ وأساسيّ. هناك أيضًا أمثلة من هوشع 8: 13 وإرميا 14:10-12 تعكس الافتراض بأن الغفران الإلهي كان مرتبطًا ومقترنًا بالذبيحة الحيوانيّة سابقة الوصف، لكن من الواضح أن حالةَ قلوب المتعبِّدين هي التي تمثِّل، بالحقيقة، التركيزَ الأكثرَ أهميّة، إذ على أساسها يقبل الرب الذبيحة المقدَّمة أو يرفضها. إن نبوة إرميا عن العهد الجديد تأتي في قرينة وتوقيت السبي البابلي لشعب إسرائيل بسبب الخطايا والتعديات. من المنطقي، إذًا، أن نستنتج على ضوء القرينة، أن النبي يوظِّف هذا التوازي «يغفر»، «لا يتذكر» لكي يعطي رجاءً لمستمعيه في وقت العقاب، بتذكيرهم أن الغفران هو واحد من الملامح الرئيسيّة لهذه المعاملات التي تربطهم مع الإله الذي يتعبّدون له.
الذبيحة كـ «مذكِر للخطيّة» في العبرانيين 10: 3
لنعُد الآن إلى الجُملة المتعلِّقة بالذبائح في العبرانيين 10: 3 حيث يقرِّر كاتب العبرانيين أن الذبائح الحيوانيّة تستتبع «مذكِّر» أو «تذكار» للخطايا. لقد ناقشنا قبل ذلك حقيقة أن حجر الزاوية في فكر الـ SCM عن الغفران في كلا العهديْن كان نتاج التفاعل بين هذه الجملة وذاك الوعد الوارد في إرميا «لاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد». إن المدخل التقليدي لكتّاب الـ SCM يأخذ المعاني المستخلصة من «مذكِّر» كتحريض أو حث عقلاني من هذا المقطع وقراءته في ضوء إرميا 31: 34، وبعدها يُقرَأ العبارتان معًا، في وحدة عضويّة، لأن الذبائح «تذكِّر» الله بالخطايا التي ارتكبها البشر. كان الله «يتذكر الخطايا» في العهد القديم، لكنه توقّف عن ذلك في العهد الجديد. إن الفحص السابق لمعنى: «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد» في قرينة سفر إرميا يكشف عن وجود معنى هناك أكثر من مجرد النشاط العقلي. والأكثر من ذلك أنها تُظهر أن إرميا 31: 34 قاد بعض المفسِّرين لأن يخطئوا في تناول العبرانيين 10: 3 وتفسيرها. إن الـ «مذكر» الذي تقدِّمه الذبائح يرتبط بالشعور بالذنب أو بـ «ضَمِيرُ خَطَايَا» (العبرانيين 10: 2). لذلك فإن علامة الذبائح كـ «مذكِّر بالخطيّة» هي إشارة إلى تذكُّر الإنسان الخاطئ لخطاياه، وليس تذكُّر الله لها. أكرِّر، إن الذبائح السنويّة تذكِّر العابدين بخطاياهم التي ارتكبوها.[3] إن كاتب العبرانيين لا يطرح فكرة أن الله قد اعتاد على تذكُّر خطايا شعبه. إنه لا يجادل في هذا الأمر أساسًا! إنه فقط يقول إن العابدين في العهد القديم كانوا يتذكّرون خطاياهم من خلال الذبيحة السنويّة التي تُقدَّم في يوم الكفارة العظيم، أما العابدون في العهد الجديد فلا يتذكّرون خطاياهم من خلال ذبائح حيوانيّة، لأن تلك الذبائح لم تعد مطلوبة أصلاً. لذا، فإن العبارتيْن تحويان الفعل «يتذكّر» في معنييْن مختلفيْن تمامًا. إن عبارة إرميا تتضمّن الوعد الإلهي بأن المؤمنين سوف لا يُعاقَبون، والكلمات الواردة في العبرانيين تقرِّر أن المسيحيين ليسوا بحاجة لتقديم الذبائح الحيوانيّة التي تذكِّرهم بخطاياهم وبديمومة آثامهم.
الخلاصة
إن فهم علماء الـ SCMللنظام الذبائحي وللغفران جاء نتاج مبدأ تفسيري بأن مناقشات العهد الجديد لتعاليم العهد القديم تُنتج الخلاصة الوحيدة الصحيحة، ما دمنا نستخدم نظرتهم التفسيريّة للعهد القديم. وبتطبيق هذا المبدأ على نبوة إرميا عن «العهد الجديد» (إرميا 31: 31 -34) ومناقشة النص الوارد في العبرانيين ص 8 – ص 10 (لا سيما 10: 1-4) قادت إلى نظرة أكثر اتساعًا مفادها أن الخطايا لم تكن تُغفَر تمامًا وبالكليّة في العهد القديم، لأن الذبائح الحيوانيّة قد أدامت مرارة ذكرى الخطيّة. أما بعد صلب المسيح وتقديم نفسه ذبيحة فإن الخطايا يمكن أن تُغفرَ تمامًا وتُطرحَ عنا بعيدًا، بل وتُنسى نهائيًا. لقد كانت أطروحتي أن هذا العرض خاطئ تمامًا في جانبيْن على الأقل؛ أولهما، لأن العبارة المُتعلِّقة بالغفران في إرميا 31: 34 تُشير إلى وقف العقاب، وليس فقط مجرد النشاط العقلي المُتعلّق بالنسيان. أما الجملة الواردة في رسالة العبرانيين فهي تُشير إلى تطهير الضمير الإنساني بحيث أن ثقل خطايانا قد طُرح عنا. إن كل موضوع يجب أن يُعتبر منفصلاً عن الموضوع الآخر، وسبب هذا الفصل هو معرفتنا بالهجوم على الإيمان المسيحي بسبب تبنّي أفكار الفلسفة الأفلاطونيّة الوسيطة عن الذبائح وكيفيّة اكتساب البر الإنساني. إن رسالة العبرانيين هي رسالة التشجيع وتثبيت المؤمنين في الإيمان بفرادة وسمو وتفوق المسيح وذبيحته الكفارية (العبرانيين 13: 22). إنها تذكّرنا بأن السمو والتفوق الأساسييْن للعهد الجديد (المسيحي)، بالمقارنة مع أي نظام آخر يستند على ذبائح حيوانيّة (بما في ذلك العهد الموسوي اليهودي)، يتمثلان في الحالة الإيجابيّة للضمير المسيحي. وفي ذلك، لا يمكن إنكار أن الله قد غفر بالفعل ونسى حقًا كلَّ الخطايا التي أُرتُكبت في العهد القديم. إن الله كان –وما يزال- إله الغفران. وكما كان الله مُنعمًا وغفورًا لأولئك الذين عاشوا في ظلال العهد القديم، فإن الله –في المسيح- قد صنع لنا شيئًا أكثر روعة. ففي المسيح، يكشف لنا الله عن كيفيّة ضمان الغفران، لنا لأننا وضعنا ثقتنا في المسيح، وهو يطمئن قلوبَنا بأنه «يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ...الْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَهُمْ أَيْضًا ضَمِيرُ خَطَايَا» (العبرانيين 10: 1، 2).
[1] Lightfoot, Jesus Christ Today, 160; cf. Norman C. Habel, Jeremiah, Lamentations (Concordia Commentary; Saint Louis: Concordia Pub. House, 1968), 248.
لا ينبغي أن نفتكر أن الغفران يمكن أن يُنظَر إليه بمعزل عن الأوصاف الأخرى للعهد؛ إذ أن السمات الأربع للعهد تعمل معًا من أجل رسم صورة واحدة، لكننا هنا معنيّون بهذا الجانب فقط من هذه الصورة.
[2] من المعروف، في ضوء الدراسات الحاليّة للعهد القديم، أن «يتذكّر» (ذاكار في العبريّة) يمكن أن تعني أكثر من مجرد استدعاء ما قد نُسى إلى الذاكرة من جديد. هناك فروق بسيطة جدًا بين «يستدعى إلى الذهن» و «يأخذ في الاعتبار» (كما نسأل من إخوتنا أن يتذكروننا في صلواتهم)، لكن كتبة الوحي المُقدّس عادة ما يستخدمون الفعل «يتذكّر» للتعبير عن «القيام بفعل ما من شأنه إكرام الوعود والاتفاقات التي قُطعت سابقًا. وعلى سبيل المثال، عندما يقول كاتب الوحي إن الرب قد «تذكّر عهده» (التكوين 9: 15، 16؛ الخروج 2:24، 6: 5؛ اللاويين 26: 42، 45؛ كورنثوس الأولى 16: 15؛ مزمور 103: 18؛ 105: 8؛ 106: 45؛ 111: 5؛ إرميا 14: 21؛ عاموس 1: 9)، فهو هنا لا يطرح الفكرة بأن الرب قد نسى التزاماته العهديّة الدائمة، ولا أن الرب قد أخذ في اعتباره تلك الالتزامات. إنه فقط ينبّهنا أن الرب يتصرّف الآن وفقًا لوعوده العهديّة. وعلى نفس المنوال، فإن فكرة أن الرب ينسى خطايانا، تذكّرنا بأن الرب يعاقب البشر على ذنوبهم، تمامًا كما حذّرهم سابقًا.
See H. Eising, "zkr," TDOT 4 (ed. G. I. Botterweck and H. Ringgren; Grand Rapids: Eerdmans, 1980), 64-82; F. F. Bruce, The Epistle to the Hebrews (rev. ed.; Grand Rapids: Eerdmans, 1990), 193-94.
[3] So Barclay, Hebrews, 126; Johannes Schneider, The Letter to the Hebrews (trans. William A. Mueller; Grand Rapids: Eerdmans, 1957), 93-94