دراسة في سفر إرميا الفصل ٣١
«وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد»
بقلم تيموثي م. ويليس – جامعة بيبرداين
ترجمة القس أشرف بشاي
إن بعض شُراّح SCM يستخدمون هذه النقطة للتدليل على أنه لا غفران يمكن الحصول عليه من خلال دم الذبائح الحيوانيّة في العهد القديم. وعليه، فإن إرميا يعلن هنا متى وكيف يمكن أن يحصل البشر على الغفران في الزمان الأخير.[1] هذا الفهم الضيق قد قرَّره، بوضوح وعناد، بورتون كوفمان في شرحه لسفر إرميا الذي صدر عام 1990م:
عندما كان يُنتهك أيٌ من القوانين الإلهيّة، لم يكن هنالك مطلقًا غفران للخطايا. لم يكن هنالك غفران حتى في ظل الناموس الموسوي. لماذا؟ «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا» (العبرانيين10: 4). إن ما ورد في كل هذه المقاطع من العهد القديم، حيث غفران الخطايا، ليس إلا مجرد وعد بالغفران، فإن الإشارات كلها هي من العصر الموسوي.[2]
وبالإضافة إلى الأسئلة التي يمكن أن يثيرها هذا الموضوع، فإن سؤالاً حول صحة الأمر برمته قد يثور: ما القصد من وراء النظام الذبائحي؟ وإن لم يكن القصد من وراء النظام الذبائحي هو ضمان الحصول على الغفران، فما القصد منه إذًا؟[3]
إن إحدى المحاولات التي قام بها كتّاب SCM لحل معضلة هذا التناقض هي محاولتهم لدمج العبرانيين 10: 1 – 4 مع الفهم البولسي (نسبة إلى الرسول بولس) للشريعة الموسويّة، باعتباره مرشدًا يمكنه قيادة اليهود إلى المسيح (غلاطيّة 3: 19 -24) مؤكِّدًا أن القصد الحقيقي لذبائح العهد القديم، كما هو مُعلَنٌ في العهد الجديد، هو الإشارة إلى عدم قدرة الذبائح الحيوانيّة على ضمان تحقيق الغفران. إن الذبائح تعمل كـ «مذكِّر» للخطايا أكثر مما تعمل على «إزالة» الخطايا. لذا فالذبائح، في الحقيقة، تمثِّل علامة ثابتة لليهود على الاحتياج الدائم للغفران. إن كُتّابًا، من أمثال ر. هـ. بول يشير إلى «مرة وإلى الأبد»، التي تميِّز ذبيحة المسيح، يشير إليها كدليلٍ على أن أي غفران نتحدث عنه في ظل العهد القديم هو عمليًا يُتضمَن ويُقدَّم بالمشاركة في موت المسيح.[4] إن شُرّاح محدثين كثيرين يؤكِّدون أن لغة كاتب الرسالة إلى العبرانيين تتضمن «نماذج مجسَّمة- ماكيت»، أو «نسخة»، أو «ظلال» لكي تصف «طقوس» العهد القديم في مقابل «الحقائق السماويّة». ذبائح العهد القديم لها «مظهر» مانح الغفران، لكنها كانت مجرد رموز سابقة لما سوف يُنجَز عندما يُصلَب المسيح. إنها لا يمكن أن: «تُكمِّل أيَّ إنسان، إلا في الأمور المدنيّة أو الشكليّة المظهريّة!»[5]
وهناك كتّاب آخرون أدركوا وفهموا أن الذبيحة الحيوانيّة لها دور أساسي لإعداد المؤمنين للغفران. ربما تكون الفرضيّة البارزة والأكثر وضوحًا لهذا النوع هو ما وُضع بواسطة دافيد لبسكومب. إن لبسكومب يدّعي أن الذبائح الحيوانيّة كانت غير قادرة على أن تؤّمن للخاطي «حريّة كاملة من الخطيّة»، لكن ذبائح يوم الكفارة العظيم كانت مهمتها أن «تزيح» الخطيّة وتدفعها بعيدًا عن الخاطي، حتى يأتي يومٌ يُصلَب فيه المسيح فيستحضر ويضمن بصلبه غفرانًا كاملاً! فمع أن الذبائح كان لها تأثير إيجابي في تأجيل العقوبة، لكن جزءًا من دورها كان «التذكير» السنوي بأن الخطيّة لم تُغفر غفرانًا كاملاً بعد. [6] وهناك اختلافٌ بسيط يؤكده جون بوى John Poe «لم يكن ليوجد أي عفو قانوني أو حقيقي للخطيّة ما لم يسفك المسيحُ دمَه على تلة الجلجثة، فيضمن بسفك الدم أن يصرف هذا «الشيك» لصالحنا بدمه».[7]
هذه التوضيحات يبدو أنها تصوِّر الخطيّة كشئ غير مرئي، وأن الله قد «أجّل» العقاب أو «عبَّره» (من العبور أو الفصح passes it over). فـ «إزاحة» الخطيّة تمّ إلى وقت لاحق، إلى حين «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد». إن شروحات أخرى ظهرت- وهي أكثر دقة، لأن الكُتّاب كتبوا عن الخطيّة باعتبارها شيئًا يجب مواجهته مرات ومرات، وأن ذبائح العهد القديم تزيح، جزئيًا، جانبًا من الخطيّة. إنهم يقبلون إقرار العهد القديم بأن الله يضمن الغفران للأشخاص، لكن هؤلاء الكُتّاب ينطلقون من تلك النقطة إلى جزئيّة أن الغفران في العهد القديم لابد أن يكون ناقصًا وجزئيًا incomplete and imperfect.[8] ثم كرَّس هؤلاء الكُتّاب وقتهم وجهدهم للترويج لتعليم محدوديّة الغفران في العهد القديم وكيف أن ذبيحة المسيح قد أكملت ما كان ناقصًا في الماضي. هذه الشروحات تعتمد أساسًا على الوعد «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد»، كذلك على العبارة الواردة في العبرانيين 10: 3 عن الذبائح باعتبارها الـ «مذكِّر» السنوي للخطيّة. إن إحدى المهام الرئيسة في هذه المناقشات هي تبيان ماهيّة الخطيّة المغفورة في التدبير الموسوي، وكذا التمييز بين تلك الخطيّة التي غُفرَت وتلك التي ما زالت «تُتذكر». وعلى سبيل المثال، فإن بعض الشرّاح يجادلون بأن الخطيّة لها نوعان من النتائج؛ نتائج جسديّة ونتائج روحيّة، وهذه وتلك تؤثِّران على حياة الإنسان من الناحيتيْن الروحيّة والجسديّة. إن الذبائح الحيوانيّة – والكلام ما زال على لسانهم- تتعامل مع الأمور الجسدانيّة، ولذا فهي قادرة على منح الطهارة للجسد فقط. وهكذا فإن هذه النتائج الأرضيّة الجسمانيّة المؤقتة هي ما يمكن للخاطئ الحصول عليه، بينما ذبيحة المسيح تتعامل مع التطهير الروحي وتقديس النفس وتضمن الحريّة والإطلاق الأبدي من نتائج الخطيّة.[9] والبعض الآخر يجادل بأن ذبائح العهد القديم تمنح الطهارة الطقسيّة عوضًا عن قذارة الجسد فقط، لكنها بلا فاعليّة عند مواجهة «وصمات وبقع الذنوب الداخليّة».[10] واقترح علماء آخرون أن ذبائح العهد القديم تتعامل مع خطايا الماضي بينما ذبيحة المسيح تتعامل مع القلب البشري وتغيِّره من أجل منع الخطايا المستقبليّة أيضًا.[11] وبصرف النظر عن دقة هذا الشرح، فإن هناك إجماعًا عامًا على أن «تذكّر» الخطايا لا يمكن أن يُزاح بواسطة الذبائح الحيوانيّة. ومع ذلك فإن غرضًا كامنًا لذبائح العهد القديم هو تذكير البشر بخطاياهم القديمة، وبـ «عدم ملائمة» الذبائح الحيوانيّة لضمان الغفران «الكامل» هذا فضلاً عن توجيه البشر لإدراك حاجتهم الكاملة لشخص المسيح وكفارته.[12]
نستطيع أن نكتشفَ سلبيتيْن في هذا الشرح الذي يعالج مسألة الغفران في العهديْن القديم والجديد؛ الأولى هي تعسف إيجاد علاقة غير مناسبة بين العبارتيْن «وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْد»، «فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا». وسوف أعالج هذه النقطة في نهاية هذه الدراسة. أما السلبيّة الثانية فهي فشل الـ SCM في التحقّق من خلفيّات هذه النصوص الكتابيّة وظروف كتابتها. بالحقيقة لا يوجد أيّة أهميّة أو اعتبار للخلفيّات المتعلقة بأمر الغفران في سفر إرميا. وأيضًا يُظهر هؤلاء الشّراح أهميّةً قليلة للبيئة اليونانيّة- الرومانيّة التي عاش فيها كُتّاب العهد الجديد. في حالات كثيرة تُدرَس نصوص العهد القديم وتُناقَش كما لو كانت قد نشأت في الفراغ! وفي محاولتي التمهيديّة لنقض الكلام السابق، سوف أعالج خلفيّة «أذكرُ» و «ذِكْر». وأرجو أن تلفت الدراسةُ عنايةَ القارئ إلى بعض شرّاح العهد الجديد مثل جيمس تومبسون.
إن شرح تومبسون لرسالة العبرانيين، والتي تبلغ ذروة روعتها في المجلد الثاني من هذا الشرح، يعطي عرضًا مختلفًا ورائعًا لعالم كاتب الرسالة إلى العبرانيين، لذا فالكاتب يلقي بأضواء مختلفة ومشرقة على هذا السفر.[13] يقترب تومبسون إلى نص رسالة العبرانيين من منطلق الفهم العميق للمحيط اليوناني- الروماني فينزع إلى المقارنة بين نص العبرانيين والفكر الأفلاطوني الوسيط، وبأكثر تحديدًا هذا الفكر كما تمّت صياغته من خلال المفكرين اليهود أمثال فيلو السكندري. إن مناقشة كاتب العبرانيين التي تدور حول تفوق وسمو المسيح معروفة جيدًا لكل الدارسين، لكن الأفكار الثلاثة الرئيسيّة لأطروحة تومبسون عن الذبائح تتميّز بتشابهها مع الفكر الأفلاطوني الوسيط. فأولاً: ليس هناك مقارنة بين «الواحد» و «الكثيرين». فـ «الواحد» هو جوهر (حقيقي ومتأصِّل) بينما «الكثيرين» هم مجرد «نُسخ» أو «أمثلة» أو «نماذج». إن تومبسون يعتقد أن كاتب العبرانيين يؤكد على سمو كهنوت المسيح بالمقارنة مع كهنوت الكهنة العاديين في العهد القديم، وهذا الفهم يعتبر «خيانة» للفكر الأفلاطوني الوسيط، فيسوع هو الجوهر الأصيل لكل كهنوت، بينما كهنة العهد القديم هم مجرد «نُسخ مجسَّمة» (ماكيتات) لهذا الجوهر. أمر ثان وشبيه هو سمو وفرادة ما تمَّ وأُنجز «مرة واحدة» في مقابل ما كان يجب تكراره باستمرار في العهد القديم. إن «ذبيحة واحدة» تم تقديمها «مرة واحدة» من أجل الجميع بواسطة «كاهن واحد» هي ذبيحة تتفوق تمامًا وأبديًا على ذبائح متكرِّرة قُدِّمت بواسطة كهنة كثيرين في مناسبات عديدة. ونظير فيلو، فإن كاتب رسالة العبرانيين يُعلِّم بأن الهدف الأخير من النظام الذبائحي كله في العهد القديم هو أن التكرار الدائم والآلي (الأوتوماتيكي) هو تذكير العابدين بخطاياهم. إن هدف كاتب العبرانيين لم يكن مناقضة اليهوديّة أو النظام الذبائحي، مع أن هذا الطرح (في ذاته) يُمثِّل نقدًا لنظام الذبائح الحيوانيّة من حيث المبدأ. إن غرض الكاتب هو إعادة التأكيد (وهذه هي كلمة التشجيع الواردة في العبرانيين 13: 22) عن خلاصهم من خلال تبيان علاقة الله العهديّة معهم التي قُطعتْ بالعهد الأول (الموسوي).[14]
إن تومبسون، نظير علماء آخرين سابقين، يحاجج أيضًا بأن كاتب العبرانيين يستخدم الطريقة البلاغيّة المعروفة؛ ألا وهي المقارنة synkrisis"" التي بموجبها يوازن الكاتب بين الصفات لأشياء متشابهة. ربما يضع الطيب والردئ في توازٍ؛ الفضائل والرذائل جنبًا إلى جنب، لكن بعض المقارنات تعرّفنا الفارق بين الطيب، والأطيب منه، والأطيب على الإطلاق good-better-best. إن تومبسون يستخدم نظام المقارنات في أطروحته ليفاضل بين العهديْن القديم والجديد في رسالة العبرانيين، ثم يصل إلى استنتاج بأن الكاتب لا يقصد إثبات «عدم جدوى أو عدم فاعليّة» العهد القديم ونظامه الذبائحي، بل بالحري يقصد التأكيد على الطبيعة السامية والفريدة للعهد الجديد. بالنسبة لتومبسون، فإن الهدف الأساسي لكاتب العبرانيين هو التأكيد على القرّاء بأنهم يسيرون على الدرب الصحيح إذ يتمسّكون بالإيمان بالمسيح، وهو يُؤكِّد ذلك من خلال تذكيرهم بفرادة المسيح وسمو العهد الذي أقامه بموته وقيامته وذلك مقارنةً بأي عهد آخر حتى العهد الموسوي المقطوع على جبل سيناء![15]
إن الفوائد التي نجنيها من إدراك هذه القرينة هي معرفة أن كاتب العبرانيين هو بمثابة «المحاور» الذي يناقش ويفنِّد، من خلال منظور معيّن، افتراضاتٍ ثقافيّة معيَّنة ربما تختلف -في قليل أو كثير- مع الكتاب المقدّس. ذلك الأمر لا يعني أن كاتب العبرانيين يعتنق وجهاتِ نظر تتناقض مع التعليم الذي نادي به كُتّاب الوحي الآخرون، بل ربما يعني أن الكاتب يتجاوب ويرد على افتراضات غير كتابيّة كان يقدِّمها ويجادل لأجلها أولئك المؤمنون الذين جاءوا من ثقافة أكثر اتساعًا. إنه يقدِّم أطروحته مستخدمًا نصوص العهد القديم بطرائقَ وأساليبَ لم يكن يقصدها الكُتّاب الأصليّون للعهد القديم، لكن هذه الطرق ما زالت مناسبة له في ذلك الطرح عند دحض تلك الأفكار الآتية على الفكر المسيحي بشكل خادع أو بطريقة غير مباشرة. من جانب آخر، لا يجب أن نفترض أن الكاتب يطرح على المسيحيين التفسير الوحيد المقبول (الموحى به) للنص الوارد في العهد القديم.
وكمثال على ذلك، أقترحُ أن نتبنّى مدخلاً مختلفًا لفهم العبرانيين 10: 4. إن هذا العدد يُقدَّم كافتراض أن الكاتب يتوقّع من قراءه التمسّك والتشبث بالإيمان. لكن هذا لا يعني أن النظام الذبائحي للعهد القديم كان سلسلة من الأفعال غير المجُدية. هذا يقودنا للعودة إلى التساؤل عن أهميّة الذبيحة الدمويّة وضرورتها. إن الفكر الأفلاطوني الوسيط، الذي اتبعه فيلو أيضًا، يفترض أن دم الحيوان، في حد ذاته، لا يمكن أن يكفِّر عن الحالة الخاطئة للمذنب. وكاتب العبرانيين يأخذنا إلى خطوة أبعد من ذلك إذ يُطبّق ذلك المبدأ على الجميع[16] (ربما بسبب عموميّة الخطيّة؛ إذ الجميع أخطأوا). يُثار السؤال من جديد: لماذا أمر الربُ شعبه بتقديم الذبائح الحيوانيّة، ما دامت تلك الذبائح غير قادرة على ضمان الغفران لمن يذبح؟ الإجابة بسيطة: لأن الله قال إنه سيقبل الذبائح لهذا الغرض. إن أوضح تعليم عن ذلك ورد في اللاويين 17: 11 «لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ، لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْس». الدم المسفوك يكفِّر عن النجاسة الروحيّة لأن الله قرَّر أن يكون الأمر كذلك. الله يقبل دم الحيوان، الذي يحضره الإنسان الخاطئ بقلب منكسر ومستعد، كنوع من الكفارة عن الخطايا المرتكبة. دم الحيوان، في ذاته، لا يضمن غفرانًا إلا حين يريد الله ويقرِّر أن يكون له فاعليّة في التعامل مع الخطيّة. هذا المفهوم يندرجُ تحت الانتقادات الكثيرة، التي يوجَّهها العهد القديم، للرياء الطقسي عند تقديم الذبيحة. إن كفاءة الذبيحة وفاعليتها ليست في دم الحيوان نفسه، بل في قبول الله لتلك التقدمات، وتلك الحقيقة تُوضِّح لنا عدم جدوى رفع ذبائح أكثر من اللازم أو المطلوب. إن تبنّى كاتب العبرانيين لوجهة النظر الفلسفيّة، التي ترفض فاعليّة الذبيحة الحيوانيّة،لا يمكن أن تكون نقضًا لتعليم العهد القديم الخاص بقبول الله للذبائح المُقدَّمة والتي بسببها يُمنَح الغفران. بدلاً من ذلك، فإن كاتب العبرانيين يقصد أن يقول إنه حتى لو اعتنق أحدكم الفكر الأفلاطوني الوسيط الذي ينكر فاعليّة الذبائح الحيوانيّة، فإن ذبيحة المسيح فعّالة لا لسبب إلا لكونه هو المسيح الذي قدَّم نفسه هناك (العبرانيين 10:5 -18).
إن جزءًا آخر مهمًا في أطروحة رسالة العبرانيين هو المقابلة بين الذبائح السنويّة المتكرِّرة للعهد القديم وهذه التي قُدِّمت «مرة واحدة»؛ ذبيحة المسيح.[17] هذا التناقض يعكس الحساسيّة تجاه الفكر الأفلاطوني الوسيط الذي أصَّل وأسَّس لفكرة ضرورة تكرار الذبائح الحيوانيّة المؤقَّتة (لأنها جسدانيّة)، بينما ذبيحة المسيح المقدَّمة «مرة واحدة» لها فاعليّة سماويّة وأبديّة (لكونها روحيّة).[18] إن كاتب العبرانيين ليس ضدًا لنظام العهد القديم، لكن قصده الحقيقي هو تأكيد كفاية كفارة المسيح الكاملة وفاعليّة صليبه في مواجهة اعتراضات الفكر الأفلاطوني الوسيط.
[1] «في ظل (العهد) الأول، لا يوجد عفو حقيقي عن الخطيّة .... لقد كان هناك عفو عمليّ، لكن عفوًا شرعيًّا لم يكن موجودًا».
John T. Poe, "The Two Covenant," GA 58 [1914]: 168; Wallace, "Articles," 133).
[2] Coffman, Jeremiah, 354.
[3] وعلى سبيل المثال، فإن التعليمات المختصة بتقديم ذبيحة الخطيّة وذبيحة الإثم ترسم خطًا مستقيما واصلاً بين ثلاث نقاط: الذبيحة الحيوانيّة، والكفارة، والغفران (اللاويين 4: 26، 31، 35؛ 5: 6، 10، 13، 16، 18؛ 6: 7)، لكن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه ينكر إمكانيّة الحصول على الغفران من خلال الذبائح الحيوانيّة!
[4] R.H. Boll, Lessons in Hebrews (Nashville: McQuiddy Printing, 1910, 120-22; Jones, "The 'New' and the 'Old,'" 679.
[5] Milligan, Epistle to the Hebrews, 267; cf. Boll, Lessons in Hebrews, 120, 122.
إن شراح الـ SCM ليسوا وحدهم في هذه الاستنتاجات حول هذا الموضوع؛ فالكاتب K.F. Keil من القرن الـ 19 يكتب: «إن ذبائح العهد القديم لم تكن إلا رموزًا سابقة لذبيحة المسيح الكفاريّة الحقيقيّة».
Prophet of Jeremiah, 40); cf. Albert Barnes, The Epistle of the Hebrews (New York: Harper ؛Brothers, 1873), 180-81, 202-203; H. C. G. Moule, Messages from the Epistles to the Hebrews (New York: Hodder and Stoughton, 1909), 53-54.
وهناك دليل على أن آباء الكنيسة، مثل أوريجانوس، قد حاجوا بوجهات النظر تلك، فيما يختص بذبائح العهد القديم، كأساسيات. see James W. Thompson, Hebrews (Paideia Commentaries; Grand Rapids: Baker Academic, 2008), 177.
[6] «هناك نوع من الغفران الذي يحرِّر من الخطيّة، أو حتى من تذكار الخطيّة خلال سنة واحدة وهي التي قُدمت خلالها الذبيحة. لذا فإن تقديم «ذبيحة الخطيّة» كان يتم مرة كل عام، وكانت هذه المرة بمثابة «تذكار» للخطيّة؛ تذكار سنوي للخطيّة نفسها. كان هناك تذكر مستمر للخطيّة المرتكَبة حتى وقت تقديم الذبيحة أو الكفارة عنها. أما بعد تقديم الذبيحة، فلا تذكار أو إمساكٌ للخطيّة ضد الخاطي حتى تمام السنة، حتى تُرتكَب الخطيّة مرة أخرى كما لو أن ذبيحة لم تُقدَم من قبل. ويظل التثقل كذلك حتى تُقدَم ذبيحة أخرى لضمان امتداد الغفران سنة أخرى قادمة. لقد كانت مهمة تقديم الذبيحة، لضمان الغفران السنوي، واحدةً من واجبات رئيس الكهنة. لكن هذا الغفران لم يكن ليكتمل أو ليُتمَّم سنويًا ما لم يُعتمَد على مجئ المسيح الذي سيُقدِم نفسه كحمل الله، بلا عيب، من أجل خطايا العالم».
(Lipscomb, "Forgiveness under the Jewish Law," 692; "The Promise and The Covenant," 264-65).
[7] Poe, "The Two Covenants," 168.
[8] إن الجملة الآتية للكاتب نوئيل ميرديث J. Noel Meredith هي جملة ليست غريبة: «إن الاحتماء في دم حيوانات ذبائح العهد القديم لا يمكن أن يزيح الخطايا بشكلٍ كامل» (The New Covenant," 441")
[9] يقول جونز في كتابه: («الجديد» و «القديم») ص 678 «يرى لبسكومب توازيًا في وعود العهد القديم. هذه الوعود كانت محدودة في البركات الأرضيّة (امتلاك الأرض وبركات الزواج)، بينما تتضمن وعود العهد الجديد بركاتٍ سماويّة».
(D. Lipscomb, "The Covenants," GA 42 [1900]: 681; cf. Officer, "The Covenants," 322; William Barclay, The Letter to the Hebrews [Philadelphia: Westminster, 1957], 114-15).
[10] Lightfoot, Jesus Christ Today, 171; cf. Barkley, 125-26
[11] Boll, Lessons of Hebrews, 98-99; cf. Andrew Murray, The Holiest of All: An Exposition of the Epistle of the Hebrews (Old Tappan, NJ: Fleming H. Revel, 1894). 329-30.
[12] Lipscomb, "The Covenants," 680; "The Promise and The Covenants," 264-65; Boll, Lessons in Hebrews, 96-98, 120-21; cf. Theodore H. Robinson, The Epistle of The Hebrews (New York: Harper and Brothers, 1923), 136; J. Roy Vaughan, "The Old and New Covenants," GA 83 (1941): 755; Lightfoot, Jesus Christ Today, 184.
[13] In addition to Hebrews (Paideia Commentaries, 2008), see James W. Thompson, "Ephapax: The One and the Many in Hebrews," NTSud 53 (2007): 566-81; idem, The Beginnings of Christian Philosophy (CBQMS 13; Washington, DC: Catholic Biblical Society, 1982); idem, The Letter to the Hebrews (Living Word 15; Austin: Sweet, 1971).
[14] Thompson, Hebrews, 181, 185-86, 194-95.
[15] Thompson, Hebrews, 10-13, 166-99.
[16] تومبسون: رسالة العبرانيين ص 195: «إن أحد مظاهر الفكر الأفلاطوني الوسيط هو التفرقة الواضحة بين عالم الجسد وعالم الروح، ونقد هذا الفكر بشكل نهائي ليس متجذرًا في التقليد النبوي كما في تقدير الناموس والنظام الذبائحي، باعتبارهما عناصر لعالم الجسد».
(Harold W. Attridge, "A Commentary on the Epistle to the Hebrews [Hermeneia; Philadelphia: Fortress, 1989], 273).
من وقت إلى آخر، فإن كتّاب الإس إم سي يجادلون بأنه يجب أن يكون واضحًا لكل إنسان عاقل أن دم الحيوان الذبيح غير العاقل (الذي لم يختر أن يقدَّم كذبيحة) لا يمكن أن يضمن تطهيرًا لخطايانا. إن الحيوان، ببساطة، ليس ذبيحة كافيّة، لكي يعطي هذا الاستحقاق الغالي. (ليتفووت: يسوع المسيح اليوم ص. 184، 185). إن تفسيرًا كهذا يتجاهل اللاويين 17: 11 الذي يقرِّر أن الله هو الذي وضع هذا النظام القاضي بأن يكون لدم الحيوانات هذه الفاعليّة.
[17] من الجدير بالذكر أن كاتب العبرانيين يشير، على سبيل الحصر تقريبًا، إلى ذبيحة يوم الكفارة العظيم. يشير العهد القديم إلى قبول الرب للقرابين والذبائح كما قرّرها هو، وأنه سوف يغفر خطايا شعبه (اللاويين 4: 26، 31، 35؛ 5: 6، 10، 16، 18؛ 6: 7). لكن لماذا طلب الله الذبائح في يوم الكفارة بالذات ما دامت ذبائح الخطيّة كانت تُرفّع باستمرار؟ يقترح بعض علماء العهد القديم أن بعض مظاهر التنجس بالخطيّة كانت تحدث آليًا داخل المقْدِس، وتلك المظاهر لا بد أن تُزاح مرة على الأقل سنويًا. يؤمن آخرون بأن أنواعًا معينة من الخطايا لم يكن ممكنًا التكفيرُ عنها بواسطة ذبيحة الخطيّة أو ذبيحة الإثم المعتادة، لذا فإن الذبيحة الخاصة بيوم الكفارة العظيم كانت مطلوبة للتكفير عن هذا النوع من الخطايا.
(See Jacob Milgrom, Leviticus 1-16 [AB3; New York: Doubleday, 1991], 257-58, 1067-84; Samuel E. Balentine, Leviticus [Louisville: John Knox, 2002], 128-29)
في كل الأحوال، فإن الذنب المقرون بالخطيّة يستمر حتى ميعاد رفع الذبيحة في يوم الكفارة العظيم. إن هذا الفكر كاف، من وجهة نظري، لشرح العبرانيين 10: 3، 4.
[18] Thompson, "Ephapax," 566-81