صفتان إلهيتان تبرزان في تباين واضح في كلمة الله: محبة الله وعدله. «لِأَنَّ ٱللهَ مَحَبَّة» (1يوحنا 4: 8). إنه إله الرحمة والنعمة، الشفقة والرقة، ولكنه أيضًا «دَيَّانُ كُلِّ ٱلْأَرْضِ الّذِي يَصْنَعُ عَدْلًا» (تكوين 18: 25). «ٱلْعَدْلُ وَٱلْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّك» (مزمور 89: 14). إنه يرحم من يحبونه ويحفظون وصاياه، ولكنه يفتقد «ذُنُوبَ ٱلْآبَاءِ فِي ٱلْأَبْنَاءِ فِي ٱلْجِيلِ ٱلثَّالِثِ وَٱلرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ» (راجع خروج 20: 5، 6). ينبغي للمرء أن يتذكّر هاتيْن الصفتيْن وإلا صار فهمنا لله مشوهًا. الله محبة مطلقة ولكنه أيضًا عدل مطلق.
أ. ما الّذي يَدينه الله؟
يجيب الكتاب المقدس هذا السؤال إجابة صريحة وجادة: الله يدين الخطية. حينما وحيثما يرى الله خطية، فإنه يُنزل دينونته سواء سريعًا أو في وقت لاحق. ولكنه لا يتجاهلها للأبد، ولا يتهاون معها، ولا يستهين بها ولا يقلّل من فظاعتها. كل خطية بالفِكْر أو بالقول أو بالفِعل ارتُكبت أو ستُرتكَب تستوجب الدينونة الإلهية وستنالها. كذلك كل تعدٍ لقانون الله المقدس وكل مخالفة لشروطه الأخلاقية ستنال دينونة «وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ٱلدَّيْنُونَةُ» (عبرانيين 9: 27). الدينونة لا تسمح بالمرواغة أو تتسامح مع المبرِّرات ولا تسامح أو تمنح استثناءات؛ فطبيعة الله الأخلاقية تستوجب إدانة الخطية.
لكن قد يقول أحدهم: «لست مهتمًا بهذه العقيدة الصارمة القاسية، فربما الخطية والدينونة من نسج خيال أجدادي. أما الآن فأنا أعيش في عصر التنوير. أعطني الموعظة على الجبل، ودعني أعيش في ضوء مبادئها الأخلاقية. ما الذي يجعلني أهتم بأي نظرية مملة وثقيلة مثل نظرية الانتقام الإلهي؟»
أولئك الذين يتكلمون هكذا عليهم أن يفهموا أن أحكام دينونة الله العادلة لم ترد في آيات كتابية فرادى وإنما في الكثير من الفقرات الكتابية المحورية. فضلًا عن ذلك، ففي الموعظة على الجبل التي يُحتكم بها نرى ربنا الرقيق المحب مُعلّم الناصرة يذكر الدينونة أكثر من مرة وعلى نحو قاطع «وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ ٱلْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلَا يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّم» (متى 5: 30؛ انظر أيضًا متى 5: 21-29؛ 7: 13). حقيقة الدينونة بتجردها وعدم استساغة البشر لها تعد جزءًا لا يتجزأ من الإعلان الإلهي، ولا يمكن الهروب منها.
ب. كيف يَدين الله؟
1. الله يدين حسب الحق: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ ٱللهِ هِيَ حَسَبُ ٱلْحَقّ» (رومية 2: 2؛ انظر رؤيا 19: 2). الله كُلّي المعرفة، ولا ينخدع قط. وهو يدرك أفكار قلب الإنسان، ويسمع كلمات شفتيْه، ويلاحظ أعمال يديْه. ميزانه دقيق، ويدين بدقة كل مخالفة لمشيئته المعلنة. وهو لا يتسامح مع أي خداع أو إخفاء للحقائق. نرى في تحذير موسى لبني إسرائيل حقًا أبديًا: «وَلَكِنْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هَكَذَا، فَإِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ إِلَى ٱلرَّبِّ، وَتَعْلَمُونَ خَطِيَّتَكُمُ ٱلَّتِي تُصِيبُكُم» (عدد 32: 23).
2. الله لا يمنح أيّة استثناءات: «ٱلَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِه» (رومية 2: 6). ما من بشر سيهرب من حكمه القضائي. وهذا مبدأ عام، وسارٍ إلى الأبد.
3. الله ليس كبشر فهو لا ينحاز لاعتبارات شخصية «لِأَنْ لَيْسَ عِنْدَ ٱللهِ مُحَابَاة» (رومية 2: 11). لن يستطيع أحد أن يقول: «يا رب أنت تعرفني، وتعرف أمي التقية وأبي الذي آمن بالكتاب المقدس. لا شك أنك ستراعي تاريخ أسرتي أو ماضيَّ أو الملابسات المتداخلة في حالتي». كلا، فآدم، أول صنعة يد الله أخطأ وأُدين، وطُرد من جنة عدن. كما أن عالم ما قبل الطوفان أخطأ، وأُدين بطوفان غطّى الأرض. الأمم أخطأت في بابل وأُدينت بأن تشتتت وبلبل الله ألسنتها. أحزن بنو إسرائيل الله فتعرّضوا للسبي. أخطأ اليهود حينما رفضوا المسيا، وما زال دمه على رؤوسهم. ما من تضرع شخصي للعفو سيحول دون تنفيذ دينونة إلهية.
4. الله يدين الدوافع الداخلية للخُطاة وكذلك سلوكهم الخارجي: «فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح» (رومية 2: 16). الله يعلم ما يحدث في الظلام وكذلك ما في النور، ورؤيته تخترق خيال الإنسان. الإنسان ينظر إلى الزينة الخارجية لأخيه الإنسان، وعلى أقصى تقدير فإنه يستطيع تخمين أفكاره ودوافعه الداخلية. ولكن الله يفحص ما يحرّك الإنسان من الداخل، وهو يعرف قلبه ويمتحنه. فحتى أقدس أسرارنا التي لا نبوح بها ونخفيها تُعد كتابًا مفتوحًا أمامه «فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلَا خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. لِذَلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي ٱلنُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ ٱلْأُذْنَ فِي ٱلْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى ٱلسُّطُوح» (لوقا 12: 2، 3).
ج. ما هِي أحكَام الدّينونة المُمكنة؟
كثيرون يميلون للاعتقاد بأنه سيأتي يوم حينما يَمثُل كل البشر بصرف النظر عن أعمارهم، ولون بشرتهم، ومعتقداتهم أو عدم إيمانهم – أي كل البشر في كل العالم – أمام منصة القضاء نفسها حيث تُعلن الأحكام وتُنزل الدينونة، وتُمنح المكافآت، ويُنفذ العقاب. نحن نقرأ عن «يَوْمِ ٱلْغَضَبِ وَٱسْتِعْلَانِ دَيْنُونَةِ ٱللهِ ٱلْعَادِلَة» (رومية 2: 5). خاطب الرسول بولس أهل أثينا قائلًا: «لِأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْل» (أعمال 17: 31). كما يشير الرسول بطرس إلى: «يَوْمِ ٱلدِّينِ وَهَلَاكِ ٱلنَّاسِ ٱلْفُجَّار» (2بطرس 3: 7). ويكتب يهوذا عن «دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ» (يَهُوذا 6).
بناء على ما ورد في هذه الفقرات الكتابية فكثيرًا ما تكون لدى المؤمنين فكرة غامضة بأن في يوم ما ستتحقّق دينونة عامة على الجميع. وتعبير «دينونة عامة» هنا لا يعني أن كل الخطاة سيُدانون في الوقت نفسه أو في الظروف نفسها، وإنما يعني ببساطة أن كل الخطاة سيُدانون. وتعبير «يوم الدينونة» ينطوي على معنى مشابه، فالشخص الذي يتسلّق الجبال يشير إلى سلسلة جبال بعيدة باسم «قمة» رغم أنه يدرك أن وديانًا تفصل بينه وبين أعلى قمة في تلك السلسلة من الجبال. وعليه، فإن تعبير «يوم الدينونة» له «ساعات» يجب أن نُميّزها. تتعلّق ثلاثة أحكام دينونة بالبشر كأفراد، وهي:
1. دينونة خطايا المؤمنين. لقد تمّ هذا مرة واحدة في الجلجثة؛ فعلى الصليب حمل ابن الله السرمدي خطايا شعب الله، ورفع ذنبهم، وتحمّل الدينونة نيابة عنهم وبدلًا منهم. كانت الدينونة هي الموت. دفع المسيح هذا الثمن كاملًا إذ انفصل عن أبيه «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلَا تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْر» (حبقوق 1: 13)، وصرخ المسيح في ألم وهو يعاني سكرات الموت: «إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى 27: 46).
حمل الرب يسوع في موته خطايا المؤمنين الماضية والحاضرة والمستقبلة. وكانت الدينونة فريدة، وقاطعة ونهائية. ليس مَن أحد سوى المسيح كان قادرًا على تلقّي هذه الدينونة، ولا توجد حاجة لتكرار هذه الدينونة. هذه الدينونة حلّت مشكلة خطية المؤمن إلى الأبد، وجعلت له من الممكن أن ينال الغفران والحياة الأبدية، وأعطت روح الحرية، وضمان دخول السماء. قال مخلصنا: «إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلَا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاة» (يوحنا 5: 24). هذه الآية جامعة، أي أنه لا دينونة تنتظر المؤمنين الحقيقيين عند موتهم. يؤكّد الرسول بولس هذه الحقيقة نفسها: «إِذًا لَا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلْآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوع» (رومية 8: 1).
2. دينونة للمكافآت. طرح الله خطايا المؤمنين في بحر النسيان، فالمسيح دفع ثمن خطايانا فلا يعود الله يتذكّرها. ولكن الرسول يكتب للمؤمنين قائلًا: «لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِٱلْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أم شَرًّا» (2كورنثوس 5: 10)، ويقول أيضًا: «وَأَمَّا أَنْتَ، فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ؟ أَوْ أَنْتَ أَيْضًا، لِمَاذَا تَزْدَرِي بِأَخِيكَ؟ لِأَنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ ٱلْمَسِيح» (رومية 14: 10).
هل هذا يعني أنه سيأتي يوم تُثار فيه قضية الخطية فيما يتعلق بالمؤمنين؟ ألم يكن عمل المخلص مكتملًا؟ الكلمة المقدسة لا تدع مجالًا للشك هنا. لقد أدينت خطايا المؤمن وانتهت قضيتها للأبد. ولكن مكافأة تنتظره إذا كان أمينًا للثقة الموضوعة فيه. كل من يثق في المسيح مخلصًا سيقضي الأبدية في السماء ولكن بعض المؤمنين حقّقوا لله أكثر من غيرهم، فقد صلّوا وخدموا وتعبّدوا وشهدوا وقدّموا تضحيات. الله لن يتجاهل تكريسهم.
المسيح هو الأساس الوحيد (1كورنثوس 3: 11) الذي عليه بنى بعض المؤمنين أبنية من الذهب والفضة والأحجار الكريمة. كل من «قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَة» (1كورنثوس 3: 14. ادرس 1كورنثوس 3: 10-15). على الناحية الأخرى فقد بنى مسيحيون على المسيح أبنية «خَشَبًا، عُشْبًا، قَشًّا» (1كورنثوس 3: 12). ولما كانت النار ستمتحن «عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُو» فستتبدد أعمالهم، ولن ينالوا أجرة بل سيعانون خسارة، فهم أنفسهم «فَسَيَخْلُصُ، وَلَكِنْ كَمَا بِنَار» (1كورنثوس 3: 15). ينبغي ألا يفترض أي مؤمن، ولو لوهلة، أن دينونة الخطية التي تحقّقت في الجلجثة تضمن له دخول السماء، وعليه، فهو يستطيع أن يحيا كما يشاء أو يفعل ما يريد. هذا تحذير لكل إنسان يعترف بالمسيح بأن أعماله ستُدان إما للربح أو للخسارة (راجع لوقا 12: 47-48).
سيدان المؤمنون فقط أمام عرش المسيح، وسيُنصب هذا العرش عند مجيء المُخلّص ثانية. يُسجِّل يوحنا الرائي وعد الرب يسوع: «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعًا وَأُجْرَتِي مَعِي لِأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُه» (رؤيا 22: 12). يمكن أن يأتي المسيح ثانية في أي لحظة. فكم ينبغي أن نكون واعين لأنفسنا «لِئَلَّا نُضَيِّعَ مَا عَمِلْنَاهُ، بَلْ نَنَالَ أَجْرًا تَامًّا» (2يوحنا 8؛ انظر أيضًا متى 5: 12؛ 16: 27؛ لوقا 14: 14).
3. دينونة غير المؤمنين. هذه هي دينونة العرش الأبيض العظيم، وفيها سيقف كل من لم يقبل الإيمان في كل الأزمنة أمام منصة العدالة. قبل ظهور السماء الجديدة والأرض الجديدة، ستلفظ القبور الأجسام التي دُفنت بها، وستخرج من الهاوية أرواح أولئك الذين ماتوا في عدم الإيمان. سيقفون مرتعبين أمام منصة العدل الإلهي المهيبة.
ستنفتح الكتب. (راجع رؤيا 20: 11-15). وسيُقرأ سِجل بؤس خطايا البشر فيما يتعلّق بإيمانهم وسلوكهم. لن يُنتبه إلى أي استغاثة، ولن تُراعى أي أعذار، ولن تُقبل أي ظروف مُخفِّفة للحُكم. سيُعلن القرار، ويُنفذ العقاب. «الموت الثاني»، البحيرة المتقدة بالنار، تنتظر كل من أدار ظهره بعناد لله ورفض باحتقار محبته المُخلِّصة.
مشهد مأساوي حزين. ليتنا نكون خدامًا أمناء في تحذير البشر وحثهم ورجائهم أن يتصالحوا مع المسيح. وإذ نعلم «مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ» (2كورنثوس 5: 11)، ليتنا نسعى أن نُقنع الآخرين. ولكي تكون شهادتنا فعالة، ليتنا نحرص أن نفحص سلوكنا فحصًا دقيقًا. «لِأَنَّنَا لو كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا» (1كورنثوس 11: 31) سيكون لنا أن نهرب من شدة التأديب الإلهي في هذه الحياة الحاضرة ويكون لنا أن نشهد شهادة فعّالة عن الرب الذي نحبه.