بقلم د. القس مارك آلان پاول
ترجمة أمجد أنور
مقتطف من موسوعة العهد الجديد يتكلم، الكتاب الأول "البشائر وسفر أعمال الرسل"
شهدت المسيحيّة في القرن الثّاني الميلاديّ واحدًا من أهم التّطوُّرات الفكرية؛ ألا وهُو ظهور الغُنوسيّة، الّتي كانت بمثابة حركة أو منظورًا دينيًّا اجتذب كثيرين من المسيحيّين وكدّر صفو حياة الكثيرين من قادة الكنيسة الّذين سعوْا إلى الدفاع عن الإيمان القويم في مُواجهة ما أطلقوا عليه [البدعة الغُنوسيّة]. إنّ تعريف الغُنوسيّة ليس سهلًا بالمرّة، لكونها ظاهرة دينيّة وفكريّة اتخذت العديد من الأشكال والتّعبيرات المُختلفة (خُذ مثلًا مدى صُعوبة وضع تعريف مُحدّد لمعنى ديانة أو فكر [العصر الجديد] في وقتنا الحاضر). وأبدت الغُنوسيّة أيضًا قُدرةً لافتة للنظر على الاندماج مع ديانات وفلسفات مُختلفة؛ فقد كان هُناك يهُود غنوسيّون، ومسيحيّون غنوسيّون، ووثنيّون غنوسيّون. ولكن في نهاية المطاف تأكّد نجاح التّزاوج بين الغُنوسيّة والمسيحيّة بصفة خاصة. وخلال القرون الثّاني والثّالث والرّابع للميلاد شكّلت التّعبيرات الغُنوسيّة للمسيحيّة البدائل الرّئيسيّة لما نعتبره اليوم المسيحيّة [السّائدة]. وكان بالإمكان أن تجد مئات من الكنائس الغُنوسيّة المسيحيّة بطاقم كامل من الإكليروس والأساقفة والطّقوس وغيرها من التّجهيزات الّتي تجدها في أيّ منظومة دينيّة قائمة. كما أنّ الغُنوسيّين كتبوا أناجيلهم فسردوا عن الرّبّ يسُوع قصصًا تُعبّرُ عن ميولهم الخاصّة، ثُمّ أرّخُوا تلك الأسفار لفترة زمنيّة أقدم بأن نسبوا كتابتها لتلاميذ الرّبّ يسُوع أو لأشخاصٍ آخرين عاصروه. ولقد اُكتشفت مكتبة تضم كتاباتٍ غُنوسيّة في مصر في مدينة نجع حمادي في عام 1945م، وساهم ظُهور هذه الكتابات إلى حدّ كبير في تعزيز فهمنا للتنوُّع الفكريّ للمسيحيّة.
وتتدّفقُ جميعُ التّعبيرات المُتنوّعة للفكر الغُنوسيّ من منظور ثُنائيّ راديكاليّ ينظر إلى [الرُّوح] باعتبارها خيرًا في ذاتها، ويرى في [المادّة] شرًّا في ذاتها. وعليه، فإنّ العالم المادّي عُمومًا وأجسام البشر بالتّحديد يُنظرُ إليها باعتبارها سُجونًا ماديّة تحبسُ النفوس أو الأرواح الإلهيّة. بل لقد نادى أكثر نماذج الغُنوسيّة انتشارًا المعروفة بالنّسبة لنا بأنّ خالق هذا العالم إلهٌ شرير يُعرف باسم الدّيمورج، وأنّ البشر في حقيقتهم أرواحٌ خالدّةٌ استولى عليها الدّيمورج وهي الآن حبيسة في أجسادٍ من لحم ودم (في عالم المادة). ولقد آمن المسيحيّون الغُنوسيّون بأنّ المسيح جاء ليكون فاديًّا رُوحيًّا (مُتنكّرًا في صُورة إنسان) لكي يمنحنا معرفةً سرّيّة (باللغة اليونانيّة غنوس gnosis). وهذه المعرفة تمنحُ الشّخص المُستنير القدرة على التّحرُّر من الوجود الماديّ فيكتشف هويته الحقيقيّة ككائنٍ رُوحيٍّ. وتباينت المعاني التّطبيقيّة لهذه المنظومة العقائديّة على الحياة في هذا العالم تبايُنًا عميقًا، إذ آمن كثيرون من الغنوسيّين (ورُبّما مُعظمهم) بأنّ التّحرُّر من الجسد ينطوي على إنكار إشباع المُتع الجسديّة والاحتياجات الماديّة، فشجّعوا على العُذريّة، والعُزوبة، والصّوم، والأنظمة الغذائيّة المُتشدّدة، وغيرها من جوانب الحياة الزّاهدة والُمتقشّفة الّتي من شأنها أن تجعلهم أكثر روحانيّة. بيد أنّ غُنوسيّين آخرين توصّلوا إلى عكس هذه الاستنتاجات تمامًا فانخرطوا بإفراط في كافة أنواع الفجور المُتطرّفة على اعتبار أنّه ما دام أن المُهم هُو الرّوح، فلا يهم بالمرّة ما يفعلُه المرء بجسده.
جديرٌ بنا أنّ نُؤكّد أنّه فيما يبدو أنّ الغُنوسيّة تُعد تطوُّرًا شهدته القرونُ الثّاني والثّالث والرّابع، لكن لا يُوجدُ دليلٌ على أنّ الحركة في هيئتها الموصوفة كان لها شعبيّة وقت وقوع الأحداث المذكورة في العهد الجديد أو أثناء كتابة أسفار العهد الجديد، بيد أنّ المؤرّخين لا يعتقدون أنّ حركةً مثل هذه يُمكنُ أن تبزُغ كاملة النُّضج بين ليلة وضُحاها في منتصف القرن الثّاني، لذا فمن المُفترض أن الأفكار والنّزعات الّتي ستتّسم بها الغُنوسيّة لاحقًا كانت قائمة قبل هذا الوقت. ومن ثمّ، صار من المعتاد أن يُشير عُلماء العهد الجديد إلى وجود [بدايات غُنوسيّة] تكاد تكون غير منظورة وغير مُحدّدة، بوضوح، كجزءٍ من البيئة الّتي شكّلت عالم العهد الجديد. يكتب الرّسُول بُولُس عن التّمييز بين [ما للجسد] و[ما للروح] (رُومية 8: 4-13؛ غلاطيّة 5: 16-26؛ 6:8). ويُؤكّدُ البشيرُ يُوحنّا في كُلّ من إنجيله ورسائله على أنّ الرّبّ يسُوع المسيح لم يكن مُجرّد كائن رُوحي، وإنّما كان إنسانًا يمتلك جسدًا فعليًّا (يُوحنّا 1: 14؛ يُوحنّا الأُولى 4: 2). يبدو أنّ مثل هذه الآيات الكتابيّة (والكثير مثلها) تُشيرُ إلى أنّ الغُنوسيّة كانت [تلوح في الأفق]، فقد كان النّاس يُفكّرون بالفعل في أنواع الأشياء الّتي تُزمع الغُنوسيّة على تناوُلها أحيانًا على نحو يتوافق مع كتابات العهد الجديد وأحيانًا أُخرى على نحو يختلف عن تلك الكتابات.