تأليف د. القس مارك آلان پاول
ترجمة القس أشرف بشاي
مقتطف من موسوعة العهد الجديد يتكلّم، الكتاب الثاني "الرسائل البُولسيّة"
العبودية في العالم الروماني
كان نظام الرِق راسخًا متأصِّلَ الجذور في المجتمع الرومانيّ. لقد قادت الفتوحات الرومانية غالبًا إلى استعباد السكان الأصليين، وقد اعتاد صائدو العبيد أن يقبضوا على ضحاياهم في المقاطعات التي لم تخضع بعد لروما (قارن تيموثاوس الأولى 1: 10؛ رؤيا 18: 13). كان من الجائز أن يُعاقَب الأفراد بعقوبة العبودية حال ارتكابهم نوعيّات معيّنة من الجرائم، وكانت عائلات بكاملها تباع عبيدًا حينما يعجز أحد أفرادها عن سداد ديْنٍ ما. وحيثما يُولَدُ الأطفال عبيدًا كانوا يستمرون عبيدًا بشكلٍ تلقائي، مما أدى إلى تزايد عدد العبيد جيلًا بعد جيل. وفي زمن الرسول بولس كان العبيد يشكِّلون ما بين ربع إلى ثلث عدد سكان الامبراطورية.
ويبدو أن ظروف وحياة العبيد قد تباينت بشكل كبير؛ فعوامل اللياقة الاجتماعية شجَّعت الكثيرين من السادة على التعامل الإنساني مع العبيد، كما أن التطرف في الإيذاء، الذي يصل إلى حد القتل، كان محظورًا بالقانون. ورغم ذلك فقد بقي أمرُ راحة العبيد معتمدًا على تصرُّف سادتهم. في بعض الحالات، لا سيما في الحالات التي عمل فيها العبيد في المناجم، أو في مطابخ السفن وعلى مجاديفها، إذ كانت ظروف حيواتهم مهينة. ومع ذلك ففي بعض الحالات الأخرى كان العبيد يتلّقون تعليمًا ويتحصّلون على ما يلزم للحياة، وهو الذي ربما كان من العسير الحصول عليه لولا أسيادهم. في الواقع، باع كثيرون أنفسَهم عبيدًا بإرادتهم في سبيل تعلُّم حرفة أو من أجل الحصول على وظيفة تيسِّر لهم سُبُلَ العيش.
ولم تكن العبودية مؤبَّدة، ففي بعض الحالات دفع العبيدُ أجرةَ شراء حريّتهم بعد فترة من الزمن. وفي حالات أخرى، كان العبيد يحصلون على حريّتهم تلقائيًا حينما يبلغون الثلاثين من العمر. ورغم ذلك كان للعبيد قليل من الحقوق القانونية، فقد كانوا يُضربَون بحسب عدد الضربات التي يقدِّرها السيد. لم يكن بمقدورهم أن يتزوّجوا وكان أطفالُهم (الذين ينجبونهم خارج نطاق الزواج) يصبحون تلقائيًا مملوكين للسيد (قارن متى 18: 25، 34؛ 24: 48-51؛ 25: 30). لم يكن للعبد أي قدرة للتصرف في ذاته أو في تقرير مصيره. وفي عالم كان يُقدِّر الكرامة فوق أيِّ شيء آخر، احتل العبيد المركز الأخير في طبقات الهرم الاجتماعي. لم يكن للعبيد أية كرامة، وكان العبيد يعيشون "تحت لعنة" حرفيًا.
موقف الرسول بولس من العبودية
أمدّت رِسَالَة بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى فِلِيمُون العلماءَ بفرصة البحث المطوَّل حول موقف الرسول من الرق. في رسالة غلاطية 3: 28 يقول الرسول بولس: "لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ ... لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوع". هل يعني هذا أن المسيحيين يجب أن يرفضوا نظام الرق بجملته، أي أن يرفضوا امتلاك العبيد وأن يعملوا على تحريرهم؟ في كورنثوس الأولى 7: 21-24 يبدو وكأن الرسول يعتبر أن الوجود في حالة العبودية موضوعًا غير ذي صلة؛ فما دام الجميع متساوين في نظر الله، فلا يهم المكانة التي يُوجَدُ المرءُ عليها في الحياة الحاضرة. إن عددًا من الرسائل الأخرى للرسول بولس تُظهِر أنه كان مُصمِّمًا على ضرورة أن يطيع العبيد سادتهم ويخضعوا لهم (أفسس 6: 5-8؛ كولوسي 3: 22-25؛ تيموثاوس الأولى 6: 1-2؛ تيطس 2: 9-10)، لكن ليس كلُّ العلماء مقتنعين بأن بولس هو الكاتب الأصلي (أو الوحيد) لهذه الرسائل.
وعلى العكس من هذه الخلفية، فإن هناك جدلًا حول ماهية الموقف الذي أراده بولس من فِلِيمُون. بوضوح، لقد أراد الرسول من السيد فِلِيمُون أن يكون سمحًا كريمًا عند عودة أُنِسِيمُس بصرف النظر عن أية إهانة، أو أذى، أو خسارة مادية لحقت بالسيد فليمون (آية 17). لكن خلف هذه الطلبة، ما هو الجميل الذي طلب الرسول من فِلِيمُون أن يصنعه لأجله (آية 20)؟ إن قلة من العلماء يعتقدون أن الرسول أراد أن يُقدِّم فِلِيمُونُ عبدَه أُنِسِيمُس كهدية للرسول، وعليه يصبح أُنِسِيمُس عبدًا للرسول بولس فيخدمه في سجنه (آية 13). الأكثر من ذلك هو اقتراح الرسول بأن يطلق فِلِيمُون أُنِسِيمُس، حتى يتمكن أُنِسِيمُس من العودة والخدمة طواعية كأحد رفقاء الرسول بطريقة تشابه خدمة هؤلاء الرفقاء والتلاميذ. إن الرسول بولس لا يقول هذا الأمر بتلك الصراحة، لكن مفسِّرين كثيرين يعتقدون أن هذا هو ما قصدَه الرسول حين عبَّر عن ثقته أن فِلِيمُون سوف يفعل "أكثر" مما طُلِب منه. والأهم، فإن تصميم الرسول بولس بأن يعتبر فِلِيمُونُ أُنِسِيمُسَ من الآن "أَخًا مَحْبُوبًا، فِي الْجَسَدِ وَالرَّبِّ جَمِيعًا" (آية 16) يعطي انطباعًا بأن فِلِيمُون، من الآن فصاعدًا، سيعتبر عبدَه مساويًا له.
على أية حال، عبَّرَ المفسِّرون المحدثون عن خيبة أملِهم في أن الرسول لم يشجُب بوضوح نظامَ العبودية. لقد آمن الرسول بأن التمييز بين اليهود والأمم، روحيًا، لا أساس له من الصحة (غلاطية 3: 28)، ولقد تصرّف هو شخصيًّا على أساس من هذا الإيمان إذ صمَّم على إلغاء الممارسات التي تُكرِّس لهذا التمييز (غلاطية 2: 11-14). لماذا لم يتبّع الرسول بولس إجراءات مشابهة فيما يتعلَّق بموضوع الرِِق؟ ربما كان يجب عليه أن يمنع المسيحيين من المشاركة في هذا النظام، وهذا أضعف الإيمان. ربما كان يتعيّن عليه أن يخبر فِلِيمُون، بطريقة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، أنه من الخطأ اقتناء إنسانٍ كعبد، وأنه يحتاج أن يطلق أُنِسِيمُس حُرًّا إن كان يريد فعلًا أن يُرضي المسيح.
بدلًا من التركيز على ما لم يفعله الرسول بولس، فإن مفسِّرين آخرين كثيرين أرادوا التركيز على الخطوات الإيجابية التي تقدِّمها الرسالة ضدًا للعبودية. فالرسول يُصمِّم هنا أن فِلِيمُون غير مسموح له أن يعتبر أُنِسِيمُس مجردَ عبدٍ فيما بعد، بل أن يُرحِّب به كما لو كان يُرحِّب بالرسول (آية 17). وعليه، فقد قيل غالبًا إن الرسول بولس قد وضع حجر الأساس لإلغاء العبودية، مما يعني أن إلغاءها عملٌ طيب. ومع ذلك، فإن كثيرين من المؤمنين بالكتاب المقدَّس، عبر التاريخ، انتهوْا إلى التغاضي عن الرِق كنظام اجتماعي لازم للحياة في ثقةٍ كاملة أن الكتاب المقدَّس لم يحظر اقتناء العبيد. لطالما دُرسَتْ واقتُبِستْ آيات الرسالة إلى فِلِيمُون في الجدل الدائر حول العبودية، وكان المحتجون بضرورة إلغاء الرِق يتعاملون مع الحقيقة التي مفادُها أن الرسول بولس قد أعاد عبدًا إلى سيدِه دون أن يُعلم بحظر استمرار العبودية.
واليوم، يؤمن معظم علماء الكتاب المُقدّس أن الرسول لم يكن موافقًا على الرِق، وأن هذه المناشدة لفِلِيمُون من أجل أُنِسِيمُس قد صيغتْ بلغة مناسبة لتُرسل إلى شخصية قوية وبارزة بخصوص موضوع "حسّاس وشائك"، ورغم ذلك، فلو أن الرسول كان أقل حكمةٍ وبراعة في عرض وجهات نظره حول هذا الموضوع، فلعل تاريخ المسيحية الغربية (لاسيّما في الولايات المتحدة) كان قد تغيَّر بشكل كبير.
الخلاصة
أيًّا ما كانت القيود التي ضيّقت من حرية الرسول في التعامل مع موضوع الرِق كنظام قانوني واجتماعي، فإن ذلك لا يُقلِّل أبدًا من محاولته لمساعدة عبدٍ واحد. لقد قدَّر الرسولُ أُنِسِيمُسَ جيدًا (آيات 11-12)، واعتبره مساويًا له (آيات 16-17)، وربما كان التماسه الجاد والمؤثِّر من أجل خاطر أُنِسِيمُس هو كل ما استطاع عمله في وقت كان فيه الرسول المُسن مسجونًا: فمن أجل خاطر المسيح فَقَدَ بولس حريته الشخصية، وهو –من أجل خاطر المسيح أيضًا- يطلب الآن الحرية لغيره. نحن لا يُمكننا أن نعرف، على وجه اليقين، ما إذا كان فِلِيمُون قد فعل بموجب طلب الرسول بُولس أم لا، لكن كما يشير العلماء، يبدو أنه لم تُحفَظ أيُّ نسخٍ أخرى للرسالة لكي تثبت، بيقين، أن استجابةً طيّبة قد حدثت لطلب الرسول.
لكن حاشية محتملَة تتعلَّق بالقصة ظهرت على السطح بعد نحو خمسين سنة، من خلال كتابات أحد قادة الكنيسة ويُدعى أغناطيوس الأنطاكي. يكشف أغناطيوس أن أسقف كنيسة أفسس في ذلك الوقت (حوالي سنة 110م) كان يُدعى أُنِسِيمُس (أغناطيوس، إلى الأفسسيين، 1: 3)! هل من الممكن أن يكون هذا الأسقف هو أُنِسِيمُس هذا؟! هل انتهى الأمر بأنسيمس، الذي كان عبدًا يومًا ما أن يصبح أسقفًا لواحدة من أبرز كنائس العالم؟ إذا كان أُنِسِيمُس صبيًا أو مراهِقًا في وقت الرسول بولس فلربما كان ما يزال على قيد الحياة (في السبعينيات من العمر) في الوقت الذي كتب فيه أغناطيوس رسالته. ويشير بعض العلماء أن اسم أُنِسِيمُس كان أحد الأسماء الشائعة بين العبيد، لكن من الصعب، على ما يبدو، أن يكون هناك عبدٌ آخر حمل اسم أُنِسِيمُس أيضًا وقد صعد إلى هذا المركز البارز، في نفس هذه المنطقة الجغرافية، في هذه الفترة القصيرة من الوقت. لذا فإن الافتراض الأقرب للمنطق هو أن العبد الذي صار أسقفًا هو نفسه ذلك العبد الذي جاء من بيت الشخصية البارزة التي تُدعى فِلِيمُون، وهو العبد الذي خدمَ كشخص يمكن الوثوق به؛ كأحد مساعدي الرسول بولس، نظرًا لأن كلَّ من هذه العوامل تساعد على شرح صعوده البارز لتلك المكانة الرفيعة. مع ذلك، لا يخبرنا أغناطيوس بأوراق اعتماد الأسقف أُنِسِيمُس، ولا يوضّح لنا ما إذا كان الأسقف أُنِسِيمُس هو بذاته أُنِسِيمُس الذي عرفه الرسول بولس أم أنه أُنِسِيمُس آخر. إن السطر الأخير في هذه القصة هو عدم معرفتنا إذا ما كان هذا الشخص هو نفسه أُنِسِيمُس أم لا، لكن يا له من احتمال! ويا لها من نهاية عظيمة للقصة أن يصبح عبدُ فِلِيمُون الشارد أسقفًا لأفسس!