بقلم جيم بيرج
ترجمة أشرف بشاي
«اَلصِّيتُ خَيْرٌ مِنَ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ، وَيَوْمُ الْمَمَاتِ خَيْرٌ مِنْ يَوْمِ الْوِلاَدَةِ. اَلذَّهَابُ إِلَى بَيْتِ النَّوْحِ خَيْرٌ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى بَيْتِ الْوَلِيمَةِ، لأَنَّ ذَاكَ نِهَايَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَالْحَيُّ يَضَعُهُ فِي قَلْبِهِ. اَلْحُزْنُ خَيْرٌ مِنَ الضَّحِكِ، لأَنَّهُ بِكَآبَةِ الْوَجْهِ يُصْلَحُ الْقَلْبُ. قَلْبُ الْحُكَمَاءِ فِي بَيْتِ النَّوْحِ، وَقَلْبُ الْجُهَّالِ فِي بَيْتِ الْفَرَح» (الجامعة ٧: ١-٤).
أثناء محاولتي لوضع نهاية مناسبة لكتابي «نتغيّر لصورته» أرسل الله لحياتي حدثًا لا يُنسى؛ ففي ٢٤ فبراير ١٩٩٨م خطا أبي آخر خطواته في الحياة الحاضرة ليكون إلى الأبد في محضر الرب الخالق والفادي. قبل هذا التاريخ بنحو عشر سنوات حُجز أبي في المستشفى بسبب جراحة في الرباط الصليبي، وبعد ذلك بخمس سنوات أصيب بجلطة أجبرته على التقاعد المبكر في عُمر الثالثة والستين. أخيرًا أصيب أبي بنوبة قلبية في ٢٠ فبراير ١٩٩٨م وتسبّبت هذه النوبة في دخوله المستشفى، وهناك عرفنا إصابته بالالتهاب الرئوي وتدهور عضلة القلب. وخلال الأيام الأربعة التي تلت كان أبي في وحدة الشريان التاجي للعناية المركزة. استمرت حالة القلب في التدهور رغم محاولات الأطباء الحثيثة لإنعاش رئتيه. كان أبي يفيق للحظات لكنه لم يكن يقدر على الكلام بسبب جهاز التنفس الصناعي. لم يستطع أبي إجابة أسئلتي فعلمتُ أنه لن يستطيع التعافي ولا العودة إلينا. أكّد أبي لي بإشارات يده أنه على الرغم من حالته الصحيّة السيئة في الوقت الحاضر إلا أنه لم يكن يخامره أي شك أو قلق أو خوف بخصوص المستقبل. لقد علم أبي يقينًا أنه سرعان ما سيكون مع الرب. كنتُ أصلي معه كثيرًا خلال هذه الأيام الأربع، وكان يشاركني الصلاة أحيانًا لكنه غالبًا لم يكن مدركًا الكلمات التي أصلّيها.
كنتُ في تلك الفترة مُنشغلاً كثيرًا بما كتبه سليمان في الجامعة ص ٧. طبقًا لما قاله الملك الحكيم فالاحتفال برحيل الأحباء أفضل من الحفلات الصاخبة، لأن مناسبات دفن أحبائنا هي فرص تعليميّة يُدرك فيها الإنسان نهايته؛ بل نهاية كل البشر. في حالة رحيل أبي أدركتُ نهاية كل حي، ولقد وضعتُ ذلك في قلبي فصرتُ في حالة أفضل. لقد صارت الأبديّة حقيقيّة أكثر بالنسبة لي، إذ رأيتُ في موته وسيلة إيضاحٍ لما ورد في كتابي هذا.
بالنسبة للمؤمن، فكل موت يجلب الحزن ويملأ العيون بالدموع (سواء أكان الموت شخصيًا أو موت الأحباء). ومع ذلك فالموت هو وسيلة الدخول الكامل إلى حضرة المسيح. كان الموت ضروريًا لأبي لكي يمتلك ميراثه السماوي في المسيح، وبنفس الطريقة يتعيّن عليّ أن أموت عن ذاتي لكي أمتلك «المزيد من المسيح» هنا على الأرض. إن الموت يقع في القلب من رسالة الإنجيل؛ فموت الابن الحبيب كان ثمنًا للعقوبة المُخيفة التي تستوجبها خطاياي، وهو مصدر القوة اللازمة لأحيا حياة الله كما أختبرها الآن، وهو الضمانة أيضًا لكي أحيا مع الله إلى الأبد. لقد خلصتُ بموت الابن المبارك على الصليب، وبهذا الموت أنا مدعو لكي أختبر عمليًا هذا التناقض: الحياة من خلال الموت.
ومع أنني يمكنني أن أتصوّر ملء الفرح الذي يعيشه أبي الآن في محضر الله، فإنه يمكنني أن أختبر أيضًا «مذاق المجد الإلهي» حينما أتنصّل من كل مصدر للفرح الأرضي وأطلب فقط الفرح الناتج عن الشركة مع المسيح. إن مجرد التفكير في السماء أحلى بكثير من كل فرح دنيوي، ليس فقط لأن أبي هناك في السماء، بل لأن فرح السماء في ذاته أكثر تأثيرًا وفعالية في قلبي لا سيما بعد أن رأيت أبي يخطو من الزمن إلى الأبدية. ما زلتُ أتذكر (بل وأشعر) بتلك اللحظة التي وقفتُ فيها بجوار سريره وكان هناك حجاب خفيف يفصل بين حياته الأرضية وخلوده السماوي، تمامًا كما كان هناك حجاب مؤقت وستارة خفيفة فصلت بين حجرة أبي الصغيرة في المستشفى ووحدة العناية المركزة فيها.
بالنسبة لي، أريد أن أختبر مِيتةً أفضل. أريد أن أعاني أقل حينما يتحداني الموت ويواجهني هنا على الأرض. في حالة أبي، كنتُ أفكر في كم هو مُبهج للإنسان المؤمن أن يقف في حضرة الله، هذا المكان الذي صنعته بالكلية يدا الله القدير المحب! أوه، كم يهفو قلبي ويتوق إلى هذا المكان! لقد ملأت الكلمات التي كتبها الرسول بولس قلبي؛ فقد كان الرسول-نظير كل مؤمن بالمسيح- يرنو إلى لحظة اكتمال فدائه:
«فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا. لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللَّه .. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هَكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رومية ٨: ١٨-١٩، ٢٢-٢٣).
إن فكرة فداء أجسادنا لتصبح أرواحنا مُستردّة بالتمام وعلى صورة المسيح تجعل من الموت أمرًا تافهًا للغاية؛ فمنذ رحيل أبي ليكون مع الرب صرتُ أكثر تأملاً في الأمور الأبدية بأكثر عمقًا، وصار موت أي كائن أرضي بالنسبة لي أمرًا أكثر سهولة. صحيح أن «خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّة» (كورنثوس الثانية ٤: ١٧-١٨).
بينما هذا الكتاب في طريقه للانتهاء كان في نفس الوقت في طريقه للانتشار ولأداء رسالته بشكل أفضل. لقد سمعنا كثيرًا من قبل عبارة: «إنه في مكان أفضل». ليست السماء مكانًا أفضل لأنها تمتلئ بالقصور ولا لأن شوارعها من الذهب الخالص، بل بالحري هي مكان أفضل لأن زاوية الرؤية من هناك أفضل بما لا يُقاس وما ستنظره عيوننا أعظم من أن يُوصف؛ إننا سنرى الله وحمل الله عن يمين العظمة. لن يحرمنا فساد نفوسنا ولا ضعف أجسادنا من الرؤية الصحيحة والكاملة لله. إن صلاتي أن يستخدم الله هذا الكتاب لكي يُحرّك في داخلك رغبة مُقدّسة لكي ترى ما لا يُرى. إن التغيير الكتابي معناه -كما قرأتَ من قبل- أن يُنتج الله فيك تمسُّكًا بمجد الله، ويومًا من الأيام سوف يكتمل هذا التغيير لأننا سوف نُمسك بالله، وسوف يختفي كل تأثير سلبي ناتج عن قصورنا الإنساني ومحدوديتنا الأرضية.
كتب يوحنا الحبيب عن هذا التغيير فقال: «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللَّهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُو» (يوحنا الأولى ٣: ٢)، وشهد الرسول بولس عن نفس التغيير فكتب لنا: «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ، لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (كورنثوس الأولى ١٥: ٥١-٥٢). عيوننا سوف ترى عريسنا المبارك في أبهى جماله، وكعروسٍ المزيَّنة سوف نُزف إلى حفل عُرسنا للحمل الذي أحبنا وقد اشترانا بدمه. وكعروسه المفديّة سوف «أَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّام» (مزمور ٢٣: ٦). يا له من رجاء مبارك!
في رؤيا يوحنا ٢٢: ١٧، ٢٠ يختم الحبيب يوحنا الأصحاح الأخير من سفره الجليل بصرخة قلب المفديين: «وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ، تَعَالَ. وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ، تَعَالَ. وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً»، فتتجاوب العروس قائلة «نَعَمْ. أَنَا آتِي سَرِيعاً»، ثم ينضم كل المفديين إلى يوحنا الحبيب في هتافه: «آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوع». ونحن أيضًا الذين تمسّكنا به حتى في وقت ضباب رؤيتنا نصرخ مع المُرنِّم قائلين: «متى يا رب يتحول إيمانُنا إلى عيان؟»[1] عندها، وعندها فقط، نتغيّر بالكليّة لنكون على صورته.
[1] Horatio G. Spafford, “It is well with my soul.”