كيفية فهم الوحي وطرقه
بقلم القس أشرف بشاي
الوحي هو ما أرسلَه الله إلى أنبياءه لكي ينقلوه كتابةً إلى البشر. وفي هذا التعريف المبسَّط يمكننا أن نرى مكونات عملية الاتصال الإلهيّ بالبشر، وهي كالآتي:
المُرسِل: الله، المبادر –حسب عادته- للوصول إلى الإنسان العاجز البائس المسكين.
المُستقبِل: الأنبياء بالدرجة الأولى، وعُموم البشر في نهاية المطاف. إنها عملية اتصال تمّت على مرحلتيْن (أو ثلاث مراحل).
الرِّسَالة: وهي مضمون ما أراد الله توصيله للبشر.
الأداةأو القناة الإعلاميّة: كالأحلام، والرؤى، وغيرها من الطُرُق التي اختارها الله للتواصل مع البشر –كما سيأتي.
التمييز بين الإِعْلان والْوَحِي والإِدْرَاك
من المهم أن نميِّز بين هذه التعريفات المختلفة حتى لا تختلط الأمور في ذهن القارئ:
الإِعْلان: وهو أكبر وأشمل من الوحي المكتوب؛ فهناك إعلانات إلهيّة لم تدوّن لنا (يُوحَنَّا 20: 30-31).
الْوَحِيّ: ونقصد به كَلِمة الله المكتوبة في الكتاب المُقدَّس بعهديْه القديم والجديد (كُورِنْثوس الأُولى 2: 12-13، تِيمُوثاوُس الثانية 3: 16، بُطْرُس الثانية 1: 21، مَتَّى 5: 17-18).
الإِدْرَاك الرُّوحيّ: هو الفَهْم البشريّ لأقوال الله المُوحى بها. وحتى في هذا العمل يكون للرُّوح القُدُس الدَوْرٌ (الوحيد) فيه أيضاً (رُومَية 8: 14، كُولُوسي 1: 9).
كيفَ تَكلَّمَ اللهُ للبَشَر
- ÂÂ إعلان الله في الطّبِيعة: لقد تكلَّم الله للإنسان في كتاب الطبيعة (مَزْمُور 19: 1-6، رُومَية 1: 18- نهاية الأصحاح).
- ÂÂ الله تَكلَّمَ ويتكلَّمُ في التّاريخِ الإِنْسانيّ (سِفْر دانيآل – سِفْر عاموس).
- ÂÂ الله أَعلنَ عن ذاتِه في الْكِتاب المُقدَّس (تيموثاوس الثانية 3: 16). جاء في المادة الثالثة من دستور الكنيسة الإنجيليّة بمصر: «نؤمن بأنَّ الكتب المقدَّسة، أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، هي كلمة الله، وكلها موحي بها، لفظًا ومعنى. وأنَّ كُتّابها -وهم مسوقون بالروح القدس- كتبوا بمقتضى نواميس العقل البشري. وأنَّها نص مؤتَمن للإعلان الذي أعلنه الله عن ذاته بمقتضى نعمته وهي تشهد للمسيح. وأنَّها قانون معصوم للإيمان والأعمال، وهي المرجع الأعلى ذو السلطان للحق الإلهي الروحي».
- ÂÂ ويقول بَعْضُ اللاهوتيّين: إنّ عَقْل الإنسان وضَميره هما مجال لعمل الإعلان الإلهي في البشر أيضًا (رُوميَة 2: 14-16).
ويجدر بنا هنا أن نقتبس ما ورد في كتاب دستور الكنيسة الإنجيليّة بمصر والمادة الثانية: «نؤمن بأنَّ أعمال الطبيعة، وعقل الإنسان وقلبه، وتاريخ الأمم هي مصادر لمعرفة الله ومشيئته، ولو أنّها لا تفي بحاجة البشر. ونؤمن أن الله قد أعطي إعلاناً واضحاً عن يد أناس تكلموا من قبل الله، مسوقين من الروح القدس. وأنَّه في ملء الزمان أعلن الله ذاته، إعلانًا تامًا، في وجه يسوع المسيح؛ الكلمة المتجسِّد».
ÂÂ أخيرًا أعلن الله عن ذاته (بل جاءَ إلينا) في الْمَسِيح في مِلءِ الزّمَان (غَلاطيّة 4: 4 كُورِنْثوس الثّانِية 4: 4).
الطُرُق الّتي جَاءَ بها الوَحْي
أ - الْحَديثُ المُباشِر
كَلَّمَ اللهُ الأنبياءَ في العَهْدِ القَدِيم، وتحاوَر معهم، وكلَّفهم بتوصيلِ رسائله للشعب، فمَثَلًا كلَّم اللهُ مُوسَى وإِرْمِيا مُباشرةً
«فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِن»(سِفْر الْعَدد 12: 7، 8).
«خذ لنفسك دَرْجَاً واكتب فيه كُلَّ الكلام الذي كلمتك به..»(إرميا 36: 2).
ب- الرُّؤى والأحلام
قال الله لهَارون ومَرْيم «اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُه»(سِفر الْعدد 12: 6، مَتَّى ص ١، ص ٢).
ج. الإلهام الدّاخِليّ
يقول النبيّ: «قَدْ أَقْنَعْتَنِي يَا رَبُّ فَاقْتَنَعْتُ، وَأَلْحَحْتَ عَلَيَّ فَغَلَبْتَ. صِرْتُ لِلضَّحِكِ كُلَّ النَّهَارِ. كُلُّ وَاحِدٍ اسْتَهْزَأَ بِي. لأَنِّي كُلَّمَا تَكَلَّمْتُ صَرَخْتُ. نَادَيْتُ: «ظُلْمٌ وَاغْتِصَابٌ!» لأَنَّ كَلِمَةَ الرَّبِّ صَارَتْ لِي لِلْعَارِ وَلِلسُّخْرَةِ كُلَّ النَّهَارِ. فَقُلْتُ: «لاَ أَذْكُرُهُ وَلاَ أَنْطِقُ بَعْدُ بِاسْمِهِ». فَكَانَ فِي قَلْبِي كَنَارٍ مُحْرِقَةٍ مَحْصُورَةٍ فِي عِظَامِي، فَمَلِلْتُ مِنَ الإِمْسَاكِ وَلَمْ أَسْتَطِع»(إِرْمِيَا 20: 7-9).
د. كلمة «نسا»في العبريّة التي ظهرت في كتابات الأنبياء في الْعَهْد الْقَدِيم تعني «الحِمْل»(التثقُّل). صار الأنبياء مدفوعين/محمولين بعمل روح الله لتوصيل رسالة الله إلى الشعب وتتميم الأمانة.
• هل هناك طُرُق أخرى للوحي؟ ليس لنا أن نسأل سؤالًا كهذا خارج حدود الإعلان الإلهيّ.
الْمَظاهِر الّتي تُصاحِب مَجيء الوَحْي
1. القاعدة: لقد عَاشَ الأَنبياءُ والرُّسُل؛ كَتَبةُ الْوَحْي المُقدَّس حَياةً طَاهِرة واخْتبروا حُضورَ الله الدائِم مَعَهم، فاستخدم الله عِلْمَهم وأَبحاثَهم الميدانيّة والتّقاليدَ الشّفويّة والموادَ المكتوبة (وكَذا قُدْرتَهم على التّحْليل والانتقاء والفَرْز والصِياغة ... الخ) لكتابةِ الْوَحْي (لُوقَا 1:1-4).
2. وفي حالاتٍ أُخرى بَسيطة، جَاءَ الإِرشادُ الإِلهيّ لهم (الْوَحْي) بين النّوم واليَقظة عن طريق الرؤى أو الأحلام (أَعْمَال الرُّسُل 10: 10، 11: 5)، وحتى في هذه الحالة كان الأمر يتطلّب الاستعداد الروحي من جانب النبيّ أو الرسول بالصلاة، والصوم، والاستعداد لمُوافَقة الْوَحْي وخِطته المرسُومة في أعمال الرسل 1: 8 فما كان الإعلان الإلهي المعطى للرسول أن يخالف ما سبق أن أعلنه المسيح لرسُله في السابق.
3. يُستثنى كذلك: حُدوث حَالة من النّشوة الرُّوحيّة الّتي كانت تأخُذ كاتبَ الْوَحْي بَعيداً عن العالم خلال الإعلان: «أفي الجَسَد، لستُ أعْلم أمَ خَارِج الْجَسد لستُ أَعْلم»(كُورِنْثوس الثّانِية 12: 2). هُنا نكتشفُ إِعْلانًا تحوَّل إلى وَحْي بعد 14 سنة من عُمْر الرَّسُول بولس.
4. وكانت بَعضُ الرُّؤى تؤثِّر جَسَديّاً في الأنبياء، فمَثَلاً سقط دانيآل على وجهه في ص 10: 7- 9، 16-18. السُّؤال هو: هل حدثتْ هذه الأعراض لدانيآل أثناء الرُّؤيا أم أثناء كِتابة الوحي؟ لا نعرف على وجه اليقين.
صعوبة فَهْم موضوع الوَحْي فَهْمَاً كَامِلاً
صحيح أنَّ الْكِتابَ المُقدَّس مُوحي به من الله، فهُو كلمتُه .. لكن بَحْث ماهِية الْوَحْي بدِقَّة هو أمر يكاد يكون مُسْتحيلاً. لا نستطيع أن نَفْهَم الطّريقةَ الّتي سَمِعَ بها قديسو الله كَلِمةَ الله، ولا كيفيّة اختيارهم للتّعْبِيرات اللُغويّة الّتي استخدموها، ولا نعرف معايير هذا الاختيار. لَكن (مُعْظم) الْمَسِيحيّين يُؤمنون أنّ عَمَليّة التعبير الإِنْسانيّ تمّتْ بإرشادِ الله للأنبياء. هذه هِيَ مُعْجزة الْكَلِمة؛ ظُهور كَلِمةِ الله مُدوَّنة في لُغة بَشَريّة.
ما يُقِرُّه الكتابُ وما يُعْلِنُه
نحن نقرأ في الكتاب الْمُقدَّس كُلَّ شيء: أقوال الشيطان وأعوانه، أقوال الخُطاة، خطايا الأنبياء، أحاديث البشر العاديّين، وحِواراتِ المؤمنين وغيرها. ولقد دوَّنَ الْكِتابُ المُقدَّس لنا كُلَّ شيء، والمَسِيحيّ المُتمرّس في دراسة الكتاب المقدَّس يعرِفُ أنَّ يُميِّز أقوال الله وتعاليمه ووصاياه (الإعلان) عن غيرها ممّا يدونه لنا الكتاب لكنه لا يدخل ضمن الأقوال الإلهيّة.
يتعيَّن علينا إذن أن نُميِّز بين ما قَصَدَ الله أن يُدوِّنه لنا لكنه لا يُصادِق عليه، بل يُحذِّرنا مِنه!
ما تأثير الإيمان بهذا النَّوْع من الْوَحْي؟
• ÂÂ إنّ الله موجود، والله يبادر بالتواصل مع خليقته والحديث إلى البشر تاج هذه الخليقة (تكوين 1:1، عبرانيين 11: 6).
• ÂÂ الله تَكلَّم ويتكلَّم: الله تَكلَّم ليُفهَم. إنّ الله ليس بعيدًا عن كل واحد منّا، ومن البداية قال الكتاب «ليكن نور»(تكوين 1: 5)، ومعنى ذلك أن الله أراد لنا «أن نرى».
• ÂÂ الله تَكلَّم للأَنبياء قديمًا «بأنواع وطُرُق كثيرة»، وأيضًا تكلّم لنا في نهاية الزمان «في المسيح»(عبرانيين 1:1).
• ÂÂ الإيمان بالْوَحْي هُو أساس ومُقدِّمة للإيمان بكُلِّ الْعَقَائِد المَسِيحيّة الأُخْرى: لا تحتاج أن تَبْذل مجهودًا كبيرًا لإقناع شخص بالعقائد المسيحيّة الأساسيّة: عقيدة الله الواحد في ثالوث، ولاهوت المسيح، وصلب المسيح وقيامته ما دام هذا الشخص قد آمن بوَحْي الكتاب الْمُقدَّس.
• ÂÂ هذا النوع من الوحيّ يَصْعُب علينا سبرَ كلِّ أغواره، لكنه يُوجِّهنا إلى ضرورة فَهْمِ طبيعة النّص الْكِتابيّ لمعرفة قَصْدِ الله من وراءه!
• ÂÂ إنّ الكتاب المقدَّس هو وَحْي الله (ذات أنفاس الله) ومعنى هذا أنَّ لكَلِمة الله قُوّة محييّة. وكما أحيت كلمة الله آدم في الجَنّة، هكذا «الكلام الّذي أُكلِّمكم به هو رُوح وحياة»(يُوحَنَّا 6: 63). إنّها دعوة لنا لاختبار قُوّة الْحَياة الّتي في الكلِمة الإلهيّة، فالله يعمل من خلال هذه الكلمة وتَظْهَر قُوّة الله المُخلِّصة بها. إن هدف الوحي: ليس فقط المعرفة عن الله بل معرفة الله وإقامة علاقة حُبيّة معه تغيِّر الإنسان المؤمن إلى صُورة المسيح وشخصيته، وتُملِّكهم قُوّته، فيصنعون مشيئة الله في الحياة.
ما الذي يترتّب على فهمنا للوَحْي في النقاش العقائدي أو اللاهوتي؟
• ÂÂ ينبغي أن تولِّد فينا دراسة هذا الموضوع؛ وحي الكلمة، احترامًا عميقًا لله (الْمُبادر) الذي لولا مبادرته لما تمكّن الإنسان من معرفته.
• ÂÂ يتعين علينا كذلك تقدير الدَوْر البَشَريّ العامِل مع الله، فالله –في نعمته- قبل أن يُشاركُه البشر في المهام العُليا (ومن ضِمْنها كِتابة الْوَحْي بواسطة الأنبياء والرُّسُل).
كيف نمارس تقدير كلمة الله؟
1. بمعرفة الله معرفة صحيحة: لو كانت الطبيعة أو الضمير كافييْن لمعرفة الله حقَّ المعرفة لما أرسل الله كلمته المكتوبة إلينا.
2. بالتمتّع بالخلاص: الخلاص بالمعني الْمَسِيحيّ الكلاسيكيّ (والشامِل).
3. بممارسة الكرازة: لأننا «مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل ممّا لا يفنى؛ بكلمة الله الحيّة الباقية إلى الأبد»(بُطْرُس الأولى 1: 23؛ يَعْقُوب 1: 18).
4. باستخدام كلمة الله في الحرب الرُّوحيّة: «وخذوا سيفَ الرُّوح الذي هو كلمة الله»(أَفَسُس 6: 10-16).
5. إن استيعاب كلمة الله هو البداية لعلاقة صحيحة مع الله تبدأ على الأرض وتستمر في السماء طوال الأبديّة. من المستحيل أن نؤمن بمن لا نعرفه. نحن نعرف الله من خلال كلمته (المكتوبة) وكلمته (المتجسّد)، ومن العبث أن يحاول البعض دق «اسفين»بين الكلمة المكتوبة والكلمة المتجسِّد. ونتساءل باستنكار: ما حجم معرفتنا بالمسيح التي يمكن أن نحصل عليها بعيدًا عن الكتاب المقدَّس؟!
ÂÂ