ترجمة أمجد أنور
تحرير أشرف بشاي
الله الرُّوح القُدُس
الأقنوم الثالث في الذات الإلهية هو الروح القدس، إنه موجود منذ الأزل مع الآب والابن.
أ. ألقابُه
للروح القدس ألقاب عديدة مثل الروح القدوس، روح المسيح، روح القداسة، روح الحق، روح الحياة، روح النعمة، المعزي. الأصل اليوناني لآخر هذه الألقاب هو «باركليت» ويعني «المدعو ليرافق» المؤمن كصديق وحليف. لاحظ أن الأصل اليوناني نفسه ترجم بالعربية «شفيع» في 1يوحنا 2: 1. فالمسيح الممجَّد على يمين الله هو أيضًا حليفنا وشفيعنا في حد ذاته (راجع رومية 8: 34).
ب. طبيعتُه
الروح القدس ليس مجرد فكرة أو تأثير أو من نسج الخيال؛ فهو شخص، قال عنه يسوع: «وَمَتَى جَاءَ ٱلْمُعَزِّي ٱلَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ ٱلْآبِ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي مِنْ عِنْدِ ٱلْآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» (يوحنا 15: 26). لاحظ الضمير الشخصي المستخدم هنا. (في رومية 8: 26 تستخدم الترجمة الإنجليزية ضمير غير العاقل لأن الترجمة في هذا الموضع تتعامل مع الكلمة الحيادية «نيوما pneuma» -الأسماء في اليونانية إما مذكر أو مؤنث أو محايد[1]- وتشير إلى «الروح» بمعناها المطلق» ولعل هذه الترجمة تحتاج إلى تدقيق[2]).
رغم أن الروح غير مرئي وليس له جسد، فإنه يمتلك صفات الشخصية إذ يمتلك فِكرًا، وشعورًا، ومشيئة. وهذا أمر مهم لأن هذا يعني أنه ليس مجرد «قوة» مجردة.
1. إنه يعرف. يكتب الرسول بولس قائلًا: «أُمُورُ ٱللهِ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلَّا رُوحُ ٱلله» (1كورنثوس 2: 11). إذا كان للمرء أن يفهم أمور الله، فينبغي أن يسكن فيه الروح القدس الذي يعد المسؤول عن الفهم والاستنارة الروحية. الوجه المعاكس لهذه الحقيقة أنه بمنأى عن الروح القدس، يعجز البشر مهما بلغت مستويات تعليمهم عن رؤية الحق الإلهي.
2. إنه يشعر. «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَبِمَحَبَّةِ ٱلرُّوح» (رومية 15: 30). إن ذاك الذي أشرق في قلوبنا بمحبة المسيح هو نفسه روح محبة.
3. له مشيئة. «وَلَكِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا ٱلرُّوحُ ٱلْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاء» (1كورنثوس 12: 11). يُوصَف هذا العمل الانتقائي وَصفًا مستفيضًا في 1كورنثوس 12: 7-10.
ج. عمَلُه
كان الروح القدس وما يزال يعمل على الدوام حتى حينما كُتبت كلمات تكوين 1: 2: «وَرُوحُ ٱللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاه» (فالأقانيم الثلاثة شاركت في الخلق. قارن بما جاء في مزمور33: 6؛ يوحنا 1: 3). وهكذا، كثيرًا ما يُلاحظ تأثير الروح القدس على مدار فترات العهد القديم، فمثلًا، روح الرب حل على قضاة معينين (راجع قضاة 3: 10؛ 6: 34؛ 11: 29)، وعلى الملك شاول (1صموئيل 10: 10)، وعلى داود (1صموئيل 16: 13)، وعلى عزريا (2أخبار 15: 1)، وعلى زكريا (2أخبار 24: 20).
كان الروح القدس حاضرًا بكل قدرته في زمن تجسّد المسيح، وكان هناك حينما تعمّد الرب (متى 3: 16)، وقاده في البرية ليُجرَّب (لوقا 4: 1). وكانت خدمة المُخلِّص «بِقُوَّةِ ٱلرُّوحِ» (لوقا 4: 14، 18).
بدأ حلول الروح القدس عقب تمجيد الرب يسوع بالموت والقيامة والصعود (لاحظ العامل الزمني في مقاطع كتابية مثل يوحنا 7: 37-39؛ 14: 16). ويوم الخمسين شهد استهلال هذا الحلول (راجع أعمال 2: 1-4). ويمتد عمل الروح القدس اليوم إلى كل ركن من أركان حياة المؤمن وعبادته، وشهادته، وخدمته. ما من سبيل لحصر أنشطة الروح القدس فهو جوهر حياة الكنيسة، ولكن من بين أعماله الفريدة:
1. الروح القدس يُمجِّد المسيح. هذه واحدة من وظائف الروح القدس الرئيسية. فعمل الروح القدس في قلب الإنسان يجعل المسيح حقيقيًا وفاعلًا وغاليًا. قال مُخلّصنا: «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُم» (يوحنا 16: 13، 14). ما من قدرة لغوية أو خطابية، مثل طلاقة اللسان أو الخطابة الشفاهية أو الأمثلة العملية أو استمالة النفوس بالكلام، تستطيع أن تجتذب الخاطئ للمُخلّص بمنأى عن عمل الروح القدس الذي يُمجّد المسيح.
2. الروح القدس يُبكّت الإنسان. أعلن المسيح: «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَة» (يوحنا 16: 8) «أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِي» (آية 9). يتضح من السياق أن أسوأ الخطايا هي خطية عدم الإيمان التي لا يستطيع أحد أن يزيلها سوى الروح القدس وحده بقدرته على التبكيت. ليت الروح القدس نفسه يحفر هذا الحق على جدران قلوبنا. إن كل الخطايا يمكن أن تُغتفر باستثناء عدم الإيمان بالمسيح على نحو يتمسّك فيه الإنسان بإصراره وعناده ويرفض التغيير. فَمَن يرفض الابن، يقاوم الروح وينكر الحياة الأبدية التي يقدّمها الآب.
3. الروح القدس يجدّد الإنسان الخاطئ. «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱلله» (يوحنا 3: 5). إذ يمجِّد الروحُ القدس المسيحَ، ويبكّت الخاطئ، فإنه أيضًا يقنعه ويمكنه من قبول الابن مخلصًا، وينفخ فيه نسمة الحياة الجديدة.
4. الروح القدس يسكن وسط شعب الله. «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ ٱللهِ، وَرُوحُ ٱللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟» (1كورنثوس 3: 16). وُجهت هذه الكلمات إلى كنيسة كورنثوس التي رغم اتهام الرسول بولس لها بالجسدانية (قارن بما جاء في 1كورنثوس 3: 1-3)، كان الروح القدس ما زال يسكن فيها. إن أجساد المؤمنين تُعد أيضًا هياكل للروح القدس (راجع 1كورنثوس 6: 19؛ رومية 8: 9). فروح الله القدوس يطهر أبناء الله ويشدّدهم، والأعظم من هذا أنه يثمر في داخلهم «ثَمَر ٱلرُّوحِ» (غلاطية 5: 22، 23). إنه باني الشخصية المسيحية.
هذا التعليم يُعد من التعاليم القليلة في الكلمة المقدسة التي تحتاج هذا القدر من التأكيد. على سبيل المثال، في يومنا هذا يشعر كثيرون بالخوف، وترياق الخوف هو عمل الروح القدس الذي يشرق بمحبة الله في قلب المؤمن؛ لأن «ٱلْمَحَبَّةُ ٱلْكَامِلَةُ تَطْرَحُ ٱلْخَوْفَ إِلَى خَارِج» (1يوحنا 4: 18). يكمن علاج القلق، وهو الخوف غير المُبرَر، في السلام الذي يثمره الروح القدس في الداخل. في واقع الأمر، يصير النمو في كافة سمات الشخصية المسيحية ممكنًا بحضور وقوة سكنى الروح القدس في الإنسان.
5. الروح القدس يختم المؤمنين. الروح يضع ختمه الإلهي بالملكية والسلطان والأمان على قلوب هؤلاء الذين وضعوا ثقتهم في المسيح «وَلَا تُحْزِنُوا رُوحَ ٱللهِ ٱلْقُدُّوسَ ٱلَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ ٱلْفِدَاء» (أفسس 4: 30). الروح يهب أولاد الله سرورًا ويقينًا واثقًا بأنهم ملك لله إلى الأبد.
6. الروح القدس يقود شعب الله. لم يخطئ الروح القدس حينما قاد فيلبس ليتقابل مع الخصي الحبشي «فَقَالَ ٱلرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ: تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هَذِهِ ٱلْمَرْكَبَة» (أعمال 8: 29). كما أرشد الروح القدس الكنيسة الأولى لتفرز برنابا وشاول لإرساليتهم الكرازية (راجع أعمال 13: 2، 4). واليوم، ما زال الروح القدس يستخدم كلمة الله وضغط الظروف ليفتح ويغلق أبوابًا أمام المؤمنين ويسود على نفوسهم بشعور الاضطرار الروحي. يمكن أن ينظر المؤمن الناضج إلى الوراء عبر السنين فيجد نفسه ممتنًا للطرق الغريبة والجميلة التي استخدمها الروح القدس لتوجيه خطواته.
7. الروح القدس يحث المؤمنين على العبادة. ينبغي لنا أن نصلي «فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (يهوذا 20؛ انظر أفسس 6: 18) أي حسب إرشاد روح الله، فروح الله هو مصدر إلهام تسبيحنا وشكرنا. عندما نمتلئ به، نتكلم «بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. شَاكِرِينَ كُلَّ حِين» (أفسس 5: 19، 20). ينبع مصدر العبادة المسيحية الحقة، المرضية لدى الله الآب، من الروح القدس. كتب الرسول بولس بوضوح: «لِأَنَّنَا نَحْنُ ٱلْخِتَانَ، ٱلَّذِينَ نَعْبُدُ ٱللهَ بِٱلرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلَا نَتَّكِلُ عَلَى ٱلْجَسَد» (فيلبي 3: 3). ما لم تكن تسابيحنا التي اعتدناها وتعبيرنا عن الاحترام وطقوسنا التعبدية نابعة من عمل الروح القدس في النفس فهي كلها باطلة.
8. الروح القدس يمكّن المؤمن من تقديم شهادة على إيمانه «لَكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلْأَرْض» (أعمال 1: 8). عندما حلّ روح الله بقوة على الكنيسة يوم الخمسين منح رسالة الرسل قوةً تكاد لا تُقاوَم، وقَبِل الآلاف من البشر عطية الإيمان بالمسيح. يمكن نَسب النجاح المذهل الذي حقّقه الرسول بولس في خدمته ليس فقط إلى شجاعته التي لم تخش شيئًا ولا إلى طلاقة لسانه وإخلاصه للإنجيل، فرغم أهمية هذه العوامل كلها، نجده يكتب إلى مؤمني كورنثوس قائلًا: «وَكَلَامِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلَامِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ، لِكَيْ لَا يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ ٱلنَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ ٱلله» (1كورنثوس 2: 4، 5)، ولمؤمني تسالونيكي كتب قائلًا: «أَنَّ إِنْجِيلَنَا لَمْ يَصِرْ لَكُمْ بِٱلْكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ بِٱلْقُوَّةِ أَيْضًا، وَبِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَبِيَقِينٍ شَدِيد» (1تسالونيكي 1: 5). فإذا أراد المؤمن أن تكون له شهادة قوية للمسيح، يجب أن يكون «في الروح» أي أن يكون للروح القدس السيادة والتحكم والدافع في حياته.
9. الروح القدس يعطي المؤمن القدرة على تقدير ما تُعلّمه كلمة الله وفهمه وتبصره «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللهِ، لِنَعْرِفَ ٱلْأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱلله» (1كورنثوس 2: 12). الروح القدس هو المُعلّم الأعظم. من المفيد دراسة اللغات، واللاهوت، وعلم التفسير، وغيرها من المباحث الأكاديمية، ولكن في نهاية المطاف الروح القدس هو الذي ينير العيون التي أعمتها الخطية ويسمح لشمس الحق أن تشرق. كتب يوحنا قائلًا: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْء» (1يوحنا 2: 20).
10. الروح القدس يُوقظ أجساد المؤمنين الفانية. «وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُم» (رومية 8: 11). سيأتي اليوم الذي تُقام فيه أجساد المؤمنين من بين الأموات في مجد بلا فساد. سيكون الروح القدس هو المُنفّذ للأمر الإلهي، فتحت سيادته سيتم «فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رومية 8: 23).
د. علاقتُنا بالرّوح القُدُس
يعتمد أولاد الله اعتمادًا كاملًا على الروح القدس ليهبهم الولادة الروحية والحياة والنصرة والخدمة. فالروح القدس يسكن في قلوبهم، وكلما خضع المؤمن إلى إرشاد الروح كلما صار أكثر سعادة وصَحَّ جسمه وزادت قداسته ونما رجاؤه. هذا هو قانون الحياة الأساسي الذي يعيش بموجبه المؤمن. هل يريد المؤمن أن يختبر محبة المُخلِّص وسلامه يوميًا؟ هل يبتغي أن يختبر سموًا روحيًا؟ هل يريد أن ينتصر على التجربة؟ هل يود أن يجد في نفسه ترنيمة؟ هل يسعى أن يكون بركة للآخرين حيثما ذهب؟ إذن، عليه أن يواصل الخضوع للروح القدس، عندها فقط ستُحتسب بحق حياته وشهادته لله.