ترجمة أمجد أنور
«فَقَالَ «لَا تَخَف، لِأَنَّ ٱلَّذِينَ مَعَنَا أَكثَرُ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَهُم» (الملوك الثاني 6: 16).
فيما وراء مجال الحواس البشرية مثل البصر، والسمع، واللمس يحتدم صراع بين قوى الله وقوى إبليس. إن قوى العالم غير المنظورة تقود مصائر البشر وتحكمها وتحدّدها. مَن يتمتع بحكمة في فهم أسرار الحياة وقدرة عظيمة في معركة الحياة، يمكنه أن يُميّز هُويّة هذه القوى غير المنظورة وأفعالها وأنشطتها.
الكتاب المُقدّس واضح في توصيفه لطبيعة وعمل الكائنات المشاركة في هذا الصراع الكوني الكبير. يحتدم الصراع الرئيس بين الله وإبليس، الخير والشر، البر والخطية، السماء والجحيم. تصطف أعداد لا حصر لها للمحاربة مع صفوف كل من الجانبيْن، وما من إنسان يستطيع أن يُفسِّر التاريخ تفسيرًا صحيحًا أو يفهم أحداث الحاضر وسماته المميزة أو يحل مشكلة البشرية، ما لم يدرك إدراكًا كاملاً بأن هذه الحرب حقيقية وأن مسائل الزمن والأبدية تتوقف على نتيجة هذه الحرب.
هذا الصراع غير المنظور يلقي بظلاله على مسرح الزمن، فالصراع بين الأفراد والمجتمعات والأمم ليس سوى امتداد للحرب غير المنظورة. بالنسبة للمسيحي النتيجة مؤكدة والنهاية محدّدة؛ الله والبر سينتصران، ومصير إبليس وأجناده مصير محتوم. يستطيع المؤمن أن يرفع رأسه وأن يواجه المستقبل بشجاعة كبيرة ومُقدّسة «لِأَنَّ ٱلَّذِينَ مَعَنَا أَكثَرُ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَهُم». القسم التالي في هذا الكتاب يُعرِّف القارئ بهذه الأطراف غير المنظورة وعملها.
الله الآب
يستعرض هذا الفصل والفصلان اللذان يعقبانه تعليم الكلمة المُقدّسة حول أقانيم الذات الإلهية الثلاثة: الآب، والابن، والرُوح القُدُس. لعله من الحكمة أن نستهل هذا المفهوم السامي بعبارة موجزة عن الأقانيم الثلاثة حسب تعريفها، وأن نفحص بعض الأسباب التي من أجلها يؤمن البشر بالله.
- الثالوث. لا يرد تعبير «الثالوث» في الكتاب المُقدّس، ولكن الكلمة المُقدّسة تُعلّمنا أن الله موجود ويُعبّر عن وجوده في ثلاثة أقانيم: الآب، والابن، والرُوح القُدُس «إله واحد، واحد في الجوهر، ومتساوٍ في القدرة والمجد». يرد ذكر الأقانيم الثلاثة معًا فيما لا يقل عن ثلاثة مواضع من العهد الجديد: أحداث معمودية الرب يَسُوع حيث سُمع صوت الآب، بينما الابن يعتمد، ويظهر الرُوح القُدُس على هيئة حمامة (متّى 3: 16، 17). وكذلك في وصية الإرسالية العظمى، حيث يُوصي الرب يَسُوع تلاميذه بأن يُعمِّدوا الناس «فَٱذهَبُوا وَتَلمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُم بِٱسمِ ٱلآبِ وَٱلِٱبنِ وَٱلرُّوحِ ٱلقُدُسِ» (متّى 28: 19). ونجده أيضًا في البركة الرسولية «نِعمَةُ رَبِّنَا يَسُوع ٱلمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُم. آمِين» (2كُورنثُوس 13: 14). إن فكر البشر يعجز عن فهم سر الثالوث، ومَن يحاول أن يفهم الثالوث فهمًا كاملاً يمكن أن يفقد عقله، ولكن من يُنكر الثالوث يفقد روحه.
- براهين على وجود الله. لقد أعلن الله عن وجوده للبشر، وهذا الإعلان يأتي في إطار الطبيعي وما وراء الطبيعي.
إعلاني طبيعي
- يتمثّل في الميل الديني للإنسان الذي يبحث عن معبود، وهذا يُفسِّر لنا عبادة الرموز.
- يتمثّل في الطبيعية الأخلاقية للإنسان، الشعور بالصواب أو الخطأ تجاه فعل شيء ما، وهو شعور رغم إهماله أو بلادته أحيانًا لكنه يظل صوتًا دائمًا داخل الإنسان. إن طبيعة الإنسان الأخلاقية تقتضي وجود كيان يقف أمامه الإنسان مسؤولاً وقيد المحاسبة.
- يتمثّل في قانون السبب والنتيجة؛ فالمنطق يعلّمنا أن لكل سبب نتيجة. فالكون نتيجة، والله هو منشئ هذا الوجود وسبب وجوده.
- يتمثل في قانون التصميم. يرينا المنطق أن وجود تصميم للأشياء يفترض وجود مصمِّم. والتفاعلات التي تُلاحَظ في الطبيعة وبين الإنسان والطبيعة تشير إلى وجود تصميم، والمُصمِّم هو الله.
- يتمثّل في قانون الهدف. في كل مرة يتضح هدف ما نجد فاعلاً وراءه. منظومة العوالم تتجه نحو هدف زمني محدّد، والله يمسك بزمام الهدف.
إعلان فائق للطبيعة
يقبل المؤمن المسيحي معطيات الطبيعة التي تثبت بدورها وجود الله. ولكن بخلاف هذه المعطيات، فالمؤمن يتقابل مع الإعلان الفائق للطبيعة عن الله، وهو ما يأتي إليه عبر موضوعات الكتاب المُقدّس، كلمة الله، وتجسّد الله أو الكلمة الحيّة يَسُوع المسيح. فالكلمة المكتوبة تشهد عن وجود الله، والكلمة المتجسّد هو الله في الجسد.
أ. طَبيعة الله الآب
- «ٱللهُ رُوحٌ» (يُوحنّا 4: 24). إن وجود الله غير ملموس وغير مرئي. إله واحد موجود، ذو طبيعة محدّدة وصفات غير متغيّرة «...ٱلرَّبَّ هُوَ ٱلإِلَهُ. لَيسَ آخَرَ سِوَاه» (التثنية 4: 35).
- الله شخص. يمتلك الله كافة سمات الشخصية، فهو يعرف، ويشعر، وله مشيئة «ٱلغَارِسُ ٱلأُذُنِ أَلَا يَسمَعُ؟ ٱلصَّانِعُ ٱلعَينَ أَلَا يُبصِرُ؟ٱلمُؤَدِّبُ ٱلأُمَمَ أَلَا يُبَكِّتُ؟ ٱلمُعَلِّمُ ٱلإِنسَانَ مَعرِفَة» (مزمور 94: 9، 10).
ينبغي أن نخاطب الله باعتباره شخصًا يهتم بكل جانب من جوانب خليقته. ينبغي أن نرفع أمامه كل أمنياتنا واحتياجاتنا بقلوب يغمرها السرور.
ب. صفات الله الآب
- الله أبدي «...فِي ٱلبَدءِ خَلَقَ ٱلله» (التكوين 1: 1). ليس من زمن لم يكن الله فيه موجودًا، ولن يأتي زمن لن يكون الله موجودًا فيه. إنه «...إِلَهُ ٱلدَّهر» (إشعياء40: 28)، «مِن قَبلِ أَن تُولَدَ ٱلجِبَالُ، أَو أَبدَأتَ ٱلأَرضَ وَٱلمَسكُونَةَ، مُنذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنتَ ٱلله» (مزمور 90: 2). إن تأمُّل هذه الحقيقة أمر يبعث على راحة تفوق الوصف.
- الله كلّي القدرة «وَلَمَّا كَانَ أَبرَامُ ٱبنَ تِسعٍ وَتِسعِينَ سَنَةً ظَهَرَ ٱلرَّبُّ لِأَبرَامَ وَقَالَ لَهُ: أَنَا ٱللهُ ٱلقَدِيرُ. سِر أَمَامِي وَكُن كَامِلاً» (التكوين 17: 1؛ انظر أيضًا الخروج 6: 3). لله كل القدرة، وما من شخص أو أُمَّة أو مجموعة من القوى الأرضية أو الكونية تستطيع أن تحبط مقاصده السيادية.
(يشير تعبير «كلي» [المترجم من الأصل اللاتيني omni] إلى محاولة البشر لوصف الطبيعة الشمولية لصفات الله. لا يستطيع الإنسان رؤية وفهم سوى جزء ضئيل من الخليقة، بل إن حياته لا تمثّل سوى جزء بالغ الضآلة من الأبدية. وإذ يحاول الإنسان وصف الله فإنه يستعين بكلمات ضخمة، كلمات تصف حقائق تفوق خبرته الشخصية ولكنها تقع في نطاق الإعلان الإلهي).
- الله غير محدود وكليّ الوجود. ما أبلغ وصف كاتب المزمور حين قال «أَينَ أَذهَبُ مِن رُوحِكَ؟ وَمِن وَجهِكَ أَينَ أَهرُبُ؟إِن صَعِدتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنتَ هُنَاكَ، وَإِن فَرَشتُ فِي ٱلهَاوِيَةِ فَهَا أَنتَ. إِن أَخَذتُ جَنَاحَيِ ٱلصُّبحِ، وَسَكَنتُ فِي أَقَاصِي ٱلبَحرِ، فَهُنَاكَ أَيضًا تَهدِينِي يَدُكَ وَتُمسِكُنِي يَمِينُك» (مزمور 139: 7-10).
- الله لا يتغيّر. يقول الله «لِأَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ لَا أَتَغَيَّر» (ملاخي 3: 6؛ انظر أيضًا مزمور102: 26، 27؛ يعقُوب 1: 17). إنه السبب وراء تغيّر الفصول ولكنه لا يتغيّر قط.
«أنظر فأرى التغيير والفساد حولي،
لكنك أنت يا من لا تتغيّر
تسكن في داخلي»
- الله كُلّي المعرفة «عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ ٱلقُوَّةِ. لِفَهمِهِ لَا إِحصَاء» (مزمور 147: 5)، «مَعلُومَةٌ عِندَ ٱلرَّبِّ مُنذُ ٱلأَزَلِ جَمِيعُ أَعمَالِه» (أعمال الرّسُل 15: 18؛ انظر أيضًا مزمور139: 1-6؛ الأمثال 5: 21). إنه يعلم المبادئ الإلهية التي أوجدها منذ البداية لتحكم خليقته، ويعرف العصفور الصغير الذي يسقط على الأرض، والزهرة البديعة التي تتفتّح متأنقة في الغابة. وقبل كل شيء، هو يعرفك معرفة وثيقة، يعرفك شخصيًا، ويعرفك معرفة حية. إنه يعرف فكرك، وقولك، وفعلك، وما زال يحبك.
- الله قدوس «وَهَذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ ٱلجُنُودِ. مَجدُهُ مِلءُ كُلِّ ٱلأَرض» (إشعياء6: 3؛ انظر أيضًا مزمور99: 9). حينما يتأمل المرء قداسة الله، لا يجد في نفسه قدرة على التحليل وإنما الخشوع والتعبد عند قدميْه.
- الله عادل. الله لا ينحاز في تعاملاته، وهو منصف في كل أعماله «هُوَ ٱلصَّخرُ ٱلكَامِلُ صَنِيعُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدلٌ. إِلَهُ أَمَانَةٍ لَا جَورَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُو» (التثنية 32: 4). الله لا يُماطل ولا يقدّم حلولاً وُسطى في إنصافه، وهو عادل في ميزانه لأفعال البشر «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعمَالُكَ، أَيُّهَا ٱلرَّبُّ ٱلإِلَهُ، ٱلقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ! عَادِلَةٌ وَحَقٌّ هِيَ طُرُقُكَ، يَا مَلِكَ ٱلقِدِّيسِينَ!» (رُؤيا يُوحنّا 15: 3).
- الله محبة (1يُوحنّا 4: 8، 16). إن قداسته وعدله يجعلانه يقيم عقاب الموت على خطايانا، ولكن محبته جعلته يُرسل ابنه ليحمل العقاب على الجلجثة بديلاً عن الخطاة. إن الصليب روعة إعلان قداسة الله ومحبته في آن، فهناك «ٱلرَّحمَةُ وَٱلحَقُّ ٱلتَقَيَا. ٱلبِرُّ وَٱلسَّلَامُ تَلَاثَمَا» (مزمور 85: 10).
ج. موقِفنا من الله الآب
ينبغي للبشر أن يسجدوا له عابدين «فَبِالرُّوحِ وَٱلحَقِّ يَنبَغِي أَن يَسجُدُوا» (يُوحنّا 4: 24؛ انظر متّى 4: 10). للعبادة الحقة سبيل واحد فقط، فمن الممكن أن يقف غَيرُ المؤمن في مهابة متأملاً عجائب الخليقة، ولكن المؤمن وحده، الذي وضع إيمانه في المسيح، يستطيع أن يتعبّد للخالق (راجع متى 11: 27).
وينبغي لنا أن نمجّده في حياتنا وسلوكنا، فهو ملكنا بالخلق والفداء. ينبغي للمؤمن أن يطلب «أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللهِ وَبِرَّهُ» (متّى 6: 33)، فنسعى أن نعمل ما هو لائق أمامه. يجب أن نُبقى على شركتنا معه غير مكسورة متذكّرين أننا نعيش حياتنا أمامه باستمرار، وأننا سنعيش الأبدية في محضره ونشترك في تسبيح شخصه.