جاهَد فكر الإنسان بحثًا عن إجابة لأسئلة مثل: من هو الإنسان، ومن أين جاء، وإلى أين هو ذاهب؟ ما هو الكون، وما أصوله، وما سيكون مصيره؟أ. مَن خَلق الكَون؟
يستطيع العلم تتبع أشياء على مدى أعوام كثيرة، واكتشافاته تزيح الستار عن حكمة الله وقدرته. وعندما يتعلق الأمر بأصول الأشياء، فربما يُقدّم العلم بعض التخمينات ولكنه لا يُعطي جوابًا مرضيًا. فالكتاب المقدس واضح: «بِٱلْإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ ٱلْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ ٱللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِر» (عبرانيين 11: 3).
لقد خلق الله كل الأشياء بأمره وكلمته قدرته. «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْض» (تكوين 1: 1). إنه الخالق الذي ينبغي أن نتذكّره كلنا. (راجع جامعة 12: 1). إنه الرب الذي يسود على خليقته. في واقع الأمر، الثالوث بأقانيمه الثلاثة شارك في الخليقة. فالله «خلق» (تكوين 1: 1)، وقانون إيمان الكنيسة يعلن: «أؤمن بالله الآب خالق السماء والأرض» وكان روح الله «وَرُوحُ ٱللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاه» (تكوين 1: 2). كما أن الابن، الكائن منذ الأزل في حضن الآب، قام بدوره: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَان» (يوحنا 1: 3). فأقانيم الذات الإلهية الثلاثة عملوا معًا «خَالِقِ ٱلْجَمِيعِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيح» (أفسس 3: 9). (تُقدّم مثل هذه المقاطع الكتابية وصفًا لجلال صنع يديْه: إشعياء 40: 12، 22، 26-28؛ أعمال 17: 24؛ رؤيا 10: 6).
ب. متى خُلِق الكَون؟
يبدو أن أول فصول سفر التكوين تعلّمنا أن عُمر الكون لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين. ولكن علماء الجيولوجيا يصرّون أن عمر الكون يمتد لملايين السنين. وعليه، فإن النتائج العلمية تبدو متناقضة مع ما يُسجّله الكتاب المقدس. وكثير من الطلاب يقولون إنهم فقدوا إيمانهم بالله بسبب هذا التناقض الظاهري.
ولكن سفر التكوين لا يُعلّمنا شيئًا يتعارض مع العلم الحقيقي. فتكوين 1: 1 يصف الخلق الأصلي للمادة، وهو ما وقع في الماضي البعيد. ونقرأ في تكوين 1: 2 «وَكَانَتِ ٱلْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَة» الأصل العبري للفعل العربي «كانت» يمكن ترجمته «صارت». من المُحتمل أن الكون صار خاليًا وخربًا بسبب حُكم دينونة إلهية. صارت الطاقة الذريّة مخزونة في الكتلة الأصلية، ومثل هذا الدمار الهائل ليس مستبعدًا بأي حال من الأحوال. لا يذكر سفر التكوين أي شيء عن طول الفترة الزمنية الفاصلة بين أول أعمال الله في الخَلق (1: 1) وبدء إعادة الخَلق (1: 2)، فمن المحتمل أن فترة زمنية غير محدودة تكون قد فصلت بين الحدثيْن.
هكذا أيضًا عند الإشارة إلى «أيام» الخلق التي يفسِّرها كثيرون باعتبارها «فترات خَلق» فإن الأصل العبري ينطوي على معنى «يوم» بالمعنى العام وليس «اليوم» (بمعنى «يوم أول»، «يوم ثانٍ» (راجع تكوين 1: 5، 8، 13، إلخ). ولا يُقدِّم الكتاب المقدس تحديدًا زمنيًا لطول الفترة الزمنية التي يجوز أنها فصلت بين هذه الفترات الزمنية.
يتيح نص سفر التكوين فرصة زمنية كافية لكل التفسيرات العلمية الحقيقية. لا يحتاج المرء أن ينزعج أو ينخدع حينما يسمع علماء مزيّفون يهاجمون الكتاب المقدس زاعمين أنه يتناقض مع ما توصل إليه علم الجيولوجيا؛ فسفر التكوين والجيولوجيا الحقيقية في انسجام تام.
ج. كيف خُلِق الكَون والحياة؟
لم يأتِ الإنسان وبيئته إلى الوجود بمحض الصدفة، أو «نتاج ترابط ذري تصادفي»؛ إن المسبِّب وراء وجود كل الأشياء هو الله»، ولكن ما الطريقة التي اتبعها الله في تنفيذ مقاصده الإبداعية؟ هل اتبع ظهورًا تدريجيًا للحياة تتطور فيه الأنواع تطورًا بيولوجيًا من نوع لآخر بانتظام وهذا التطور اتخذ طابع التقدم من أشكال حياة متدنية إلى أشكال متقدّمة؟
يعلّمنا الكتاب المقدس أن الله خلق exnihiloأي «من عدم» . هذا يعني أن الكون وُجد ليس عبر «مِمَّا هُوَ ظَاهِر» (عبرانيين 11: 3)، وإنما فقط نتيجة قدرة الله وعمله في الخلق.
عند تفنيد المؤمنين المسيحيين لمزاعم أصحاب نظرية التطور البيولوجي، فإنهم لا يجادلون حقيقة في حدوث نمو وتطور محدود تختبره الأنواع. ولكن ما يرفضونه هو وجود انتقال طبيعي من العدم إلى مادة غير عضوية، أو مادة غير عضوية إلى (حياة) عضوية، أو مادة عضوية إلى إنسان.
يتعارض الإيمان المسيحي مع بعض الصور المعيّنة لفرضية التطور فيما يتعلّق بكافة هذه الجوانب البالغة الأهمية. وهذا الاختلاف يقوم على أسباب علمية. فلا علم الأحياء ولا علم الجيولوجيا ولا علم الطبقات الأرضية أثبت نظرية الانتقال الطبيعي. ولكن المؤمن يختلف مع هذه الفرضية لأسباب دينية. فنظرية التطور، سواء الظهور التدريجي أو النشوء، تؤدي إلى استنتاجيْن يناقضان تعليم الكلمة المقدسة. أول هذيْن الاستنتاجيْن أن الإنسان يتطور نحو الكمال، ولا يحتاج إلى ميلاد ثانٍ، وثاني هذيْن الاستنتاجين أن يسوع، الذي يُعد في هذه الحالة أبعد ما يكون عن إله كامل وإنسان كامل، كان مجرد نقلة في مسار تطور الإنسان، صحيح أنه كان سابقًا لعصره، ولكنه بهذا الفكر صار في الماضي البعيد مجرد «موضة عفا عليها الزمن». وعليه، فهو ليس مُخلِّصًا بالمرة. وهنا المؤمن المسيحي يعترض بشدة.
تكمن روعة قصة الخَلق الواردة في سفر التكوين في ذكر كلمة «bara» وتعني «خلق» في ثلاث نقاط تتلاقي مع الرسالة إلى العبرانيين. وبين هذه النقاط نجد عبارة «خلق الأشياء» ترد مثلًا في الإشارة إلى عمليات طبيعية مثل التبخُّر والتكثف وإعادة الترتيب. ولكنه في كل كارثة يتدخّل بخلق شيء. لقد أوجد أشياء لم تكن موجودة من قبل.
1. خلقُ شيءٍ من عدم «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْض» (تكوين 1: 1).
2. خلقُ الحياة. عندما كانت الأرض مجهزة للكائنات الحية «فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلتَّنَانِينَ ٱلْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ ٱلْأَنْفُسِ ٱلْحيَّةِ ٱلدَّبَّابَة» (تكوين 1: 21).
3. خلقُ الحياة البشرية. عندما عزم الله على خلق الإنسان، لم يجعله يتطور تدريجيًا من صورة أخرى للحياة أقل تطورًا، وإنما خلق كائنًا جديدًا «فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُم» (تكوين 1: 27).
د. لِماذا خَلق الله الإنسَان والكَون؟
تعلن الكلمة المقدسة ثلاثة أسباب على الأقل جعلت الله يخلق خليقته:
1. للذته. رأى الله أنه حسن أن يخلق. لقد استمتع بهذا العمل. شيء ما في طبيعة الله جعلت لديه الرغبة في الخلق وتمّم هذه الرغبة. في رؤيا يوحنا نظر فشاهد أربعة وعشرين شيخًا يجثون أمام عرش الله قائلين: «أَنْتَ مُسْتَحِقٌّ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ ٱلْمَجْدَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْقُدْرَةَ، لِأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ ٱلْأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَت» (رؤيا 4: 11).
2. لمجده. لقد سبّحت الخليقة الأصلية خالقها. (راجع أيوب 38: 7؛ ادرس الأصحاح بأكمله). كان الكون تكريمًا لشخص الله، وإعلانًا عن كماله. ويقول القدير عن الإنسان: «بِكُلِّ مَنْ دُعِيَ بِٱسْمِي وَلِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُه» (إشعياء43: 7).
3. لتكون له شركة مع الإنسان. وضع الله أول رجل وامرأة في بيئة مواتية تتيح لهما الشركة الكاملة. الله روح، ولكي تكون للإنسان شركة حقيقة معه، كان من اللازم أن يكون للإنسان روح أيضًا. وعليه، فقد خلق الله الإنسان «على صورته» ومن بين تبعيات هذه الحقيقة، وإن كانت ليست على رأسها، أن الإنسان كان مخلوقًا لديه الحرية الأخلاقية. كانت لدى الإنسان حرية الاختيار التي بدونها كان سيصبح آليًا غير قادر على الشركة مع الله. كان الإنسان قادرًا على التمييز بين الخير والشر، وهذه القدرة على الاختيار أدت إلى سقوط الإنسان وإنزال الله اللعنة على الخليقة. انكسرت الشركة بين الله والإنسان مما أذن بتتميم أحداث الفداء التي يُسجِّلها الكتاب المقدس. الشركة تُسترد بواسطة «الخليقة الجديدة».
ه. ما هِي «الخَليقة الجَديدة»؟
1. بالنسبة للإنسان، «الخليقة الجديدة» تشير إلى استرداد ما فقده في جنة عدن. الإنسان مخلوق ساقط بالطبيعية والاختيار، ولا يستطيع أن يُرضي الله، كما أنه لم يعد قادرًا على أن يدع مجد الله ينعكس على حياته. إنه في مسيس الحاجة إلى خليقة جديدة، والله وحده يستطيع أن يصحِّح الوضع.
إن من صنع بمعجزة الإنسان من التراب ما يزال كُلّي القدرة. فلكي يسترد شركة البشر معه أرسل ابنه المحبوب الغالي ليُخلّصهم. وهؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح ابنه يختبرون قدرته الفائقة، فيخلقهم الله خليقة جديدة «إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: ٱلْأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا» (2كورنثوس 5: 17). «لِأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لِأَعْمَالٍ صَالِحَة» (أفسس 2: 10).
2. بالنسبة للكون، «الخليقة الجديدة» تعني سماء جديدة وأرض جديدة. منذ السقوط والخليقة ساقطة تحت لعنة الله (راجع تكوين 3: 17-19). «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى ٱلْآن» (رومية 8: 22). صارت الخليقة خاضعة للبُطْل (راجع رومية 8: 20). ولكن سيأتي اليوم حين «ٱلْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ ٱلْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلَادِ ٱلله» (رومية 8: 21). لن تستمر أنّات الأرض إلى الأبد، والطبيعة التي يكتنفها العنف والتنافس لن تبقى مقيّدة تحت اللعنة الإلهية.
سيأتي اليوم حينما يتدخّل الله بيدِه الخالقة من جديد، ويصنع شيئًا جديدًا «لِأَنِّي هَأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، فَلَا تُذْكَرُ ٱلْأُولَى وَلَا تَخْطُرُ عَلَى بَال» (إشعياء65: 17). «تَحْتَرِقُ ٱلْأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا» «وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً، وَأَرْضًا جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (2بطرس3: 10، 13). وهذه الخليقة الجديدة ستدوم إلى الأبد.