من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا
تأليف
ريتشارد بوكهام
ترجمة
أشرف بشاي
لقد أوضحنا أنّ رؤية الله في الأصحاح الرّابع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقرينة السّياسيّة والدّينيّة التي تُشكّل خلفيّة لسفر الرّؤيا. وفي هذه المرحلة قد يكون مفيدًا أن نتوقّف عن مناقشة الأصحاح الرّابع من أجل رسم هذا السّياق كما يُصوّره سفر الرّؤيا. إنّ الفكر اللاهوتي لسفر الرُّؤيا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على قرينة السفر. والسّؤال المطروح حول هويّة الله في الأصحاح الرّابع يرتبط بقوّة مع العالم الّذي عاش فيه قُرّاء السفر الأوّلون. هذا لا يعني أنّ سياق السفر هو الّذي يُحدّد طريقة فهمنا لله إذ يُمكن للمرء أن يقول -بنفس الطّريقة- إنّ فهم يُوحنّا، كنبيّ، لله هو الّذي يُحدّد كيفيّة فهم يُوحنّا للقرينة. لكن إذا أردنا أن نفهم كلا الموضوعين فإنّنا نحتاج أنّ نرى الارتباط بين فهمنا لله في سفر الرُؤيامن جانب، ونقد سفر الرُؤيا لقُوّة روما من جانبٍ ثانٍ.
السّؤال الآن هو: كيف رأي يُوحنّا ببصيرته النبويّة الامبراطوريّة الرُّومانيّة؟ إنّ سفر الرُؤيا نفسه لا يسمح بأيّ تصوُّر محايد: فإمّا أن يشترك المرء في أيديولوجيّة روما التي تُروّجها الدّعايّة الرُّومانيّة، أو أن يرى الإنسانُ الأمر كُلّه من المنظور السّماويّ الّذي كشف عُرى الادعاءات الرُّومانيّة. يُصوّر سفر الرُؤيا الامبراطوريّة الرُّومانيّة باعتبارها نظام سياسيّ يُمارسُ القمع العنيف إذ أنّه نظامٌ تأسّس على الغزو وفتح البلدان المجاورة واستمرّ من خلال اتّباع سياسة البطش والعُنف. قديمًا، كانت روما رمزًا للطُغيان السّياسيّ والاستغلال الاقتصاديّ. إنّ الرّمزين اللذين يُصوّر بهما الكاتبُ روما في مختلف جوانب حياتها هُما « الوَح ش الخارج مِنَ ال بَح ر» (الحيوان الوارد ذكرُه في أصحاحيّ 13، 17) «وعاهرة بابل» التي يتكلّم عنها الرّائي في الفصلي ن السابع عشر والثامن عشر. يُصوّر الوحش القُوّة السّياسيّة والعسكريّة لأباطرة الرّومان، أمّا بابل فترمز لروما في استغلالها الاقتصاديّ الّذي تربّحت من وراء كُلّ الرّفاهية والازدهار التي ترفل فيهما. لذا فالنقد الّذي يُوجّهه الرّائي لروما في أصحاح 13 هو نقد سياسيّ، أمّا النقد الاقتصاديّ فيردُ في أصحاحيّ 17، 18. لكن في كلتا الحالّتين فإنّ هذا النقد روحيٌّ بالأساس.
وترتبط صورةُ الوحش بصورة الزّانية ارتباطًا وثيقًا، فالزّانية تركب على الوحش (17: 3) إذ أنّ رفاهية مدينة روما تتحقّق على حساب الامبراطوريّة، كما أنّ تأثير روما المُفسد لعموم الامبراطوريّة يعتمد على القُوّة التي تمتلكها لتحريك جيوشها الامبراطوريّة.
وبالرّغم من أنّ نظام روما كان طاغيًا ومُستبدًّا سياسيًّا ومُستغّلًا اقتصاديًّا إلا أنّ يُوحنّا يُدرك تمام الإدراك أنّه نظامٌ لا يُقاوم ولا يُعارض من معظم رعاياه. وعلى سبيل المثال، ففي المدن الكُبرى لمقاطعة آسيّا التي يعرفها يُوحنّا جيّدًا، كان كثيرون مُتحمّسين للحُكم الرُّومانيّ. يرجع هذا الحماس، جُزئيًّا، إلى استفادة كثير من سُكّان تلك الضّواحي من نظام الحكم الرُّومانيّ. ومن بين مُصطلحات سفر الرُؤيا يظهر مُصطلح «ملوك الأرض» الّذين قامت السُّلطة الرُّومانيّة بتحييدهم من خلال مشاركتهم في الحُكم ومن خلال منحهم الامتيازات في المجتمع. وكذلك تُجّار الأرض الّذين استفادوا من الازدهار الاقتصاديّ الرُّومانيّ. وبشكلٍ عام، اقتنع رعايا روما بقُبول- بل وبالترحيب- بأيديولوجيّة روما التي يُصوّرها يُوحنّا -بشكلٍ فعّال- بشيئين مُختلفين: الوحش والزّانيّة. فإذا تكلّمنا عن الزّانية أوّلًا، فمع أنّها تعيش على نفقة زبائنها إلا أنّها تُقدّم لهم شيئًا ما 17: 4): مزايا وفوائد الحُكم الرُّومانيّ. لا شكّ أنّ هذا هو المفهوم المشهور للسلام الرُّومانيّ Pax Romana. الّذي انتشر بقوّة خلال القرن الأوّل للميلاد وعلى أساسه قدّمت روما هديتها للعالم (السّلام والأمان)، ممّا وفّر الازدهار داخل حدود الامبراطوريّة.[1] لقد قدّمت روما؛ المدينة الأبديّة، الأمان لرعاياها، وكانت بالإجمال مدينة مُبهرة بسبب رفاهيتها ونعيمها اللذين أُسبغا على رعاياها. لكن سفر الرُؤيا يُصوّر هذه الأيديولوجيّة باعتبارها سراب خادع. إنّه الخمر الّذي أسكرت به هذه الزّانية تلك الأُمة، وهو خمرٌ يُقدّم في كأس مُغشّى بالذّهب لكن الكأس تفيضُ بالرّجاسات (17: 2-3). إنّ أحد أغراض نُبُّوّة يُوحنّا أنّها تُحاول فضح هذه الجاذبيّة الزّائفة للأيديولوجيّة الرُّومانيّة.[2]
ويرسمُ الأصحاح الثالث عشر المظهر الآخر من مظاهر الأيديولوجيّة؛ ففي 13: 3-4 يتلقّى الوحشُ جُرحًا مُميتًا في أحد رؤوسه السّبعة لكن هذا الجُرح التئم وشُفي ممّا أصاب شعوب العالم بالدّهش والذّهول! لذا سجدوا للتنين الّذي أعطى الوحش قدرةً على الشّفاء. ثمّ هتفوا «مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يجرؤ أو يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟» إنّ الرّأس الّذي جُرح في الوحش يُشيرُ إلى الامبراطور نيرون الّذي ارتكب/حاول الانتحار بالسّيف.[3] إنّه الّذي صار «يُضِلُّ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَر ضِ بِالآيَاتِ التي أُع طِيَ أَن يَص نَعَهَا أَمَامَ ال وَح شِ، قَائِلاً لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَر ضِ أَن يَص نَعُوا صُورَةً لِل وَح شِ الَّذِي كَانَ بِهِ جُر حُ السَّي فِ وَعَاشَ» (13: 14). لقد أصاب هذا الجُرح الامبراطوريّة نفسها، لكن هذا الوحش تعافى من الجرح المُميت. إنّ التلميح إلى هذه الأحداث التي جرت قبل موت/وبعد موت نيرون مباشرةً قد أخافت البعض من شبح تفكُّك الامبراطوريّة. في مثل تلك الظّروف ظهرت الطّبيعة الحقيقيّة الواضحة والمكروهة: بيعة الوحش (نيرون) التي بدت واضحةً أكثر من المُعتاد. ومع اقتراب حُكم نيرون من نهايته، اندلعت الثورات قويّةً ضد الطّاغية في مُقاطعات كثيرة. وفي أعقاب وفاته حلّ عامُ الفوضى (الّذي يُؤرّخه العُلماء بالفوضى في أعقاب حُكم الأباطرة الأربعة الأقوياء). لكن القُوّة الامبراطوريّة تعافت بمجيء أسرة فيلافيوس إلى الحكم، وأُنقذت الامبراطوريّة بعد أن كانت على شفا الانهيار. وطبقًا لما ورد في نُبُّوّة يُوحنّا فقد بكى العالم عليها قائلًا: «مَن هُوَ مِث لُ ال وَح شِ؟ مَن يَس تَطِيعُ أَن يُحَارِبَهُ؟» إنّ هذه الكلمات هي محاولةٌ لمُحاكاة ترنيمة موسى «مَن هُوَ مِث لُ الرّبّ؟» (الخروج 15: 11). إنّها كلمات تُشيرُ إلى القُوّة السّياسيّة والعسكريّة المُطلقة التي تمتّع بها أباطرةُ الرّومان الّذين تقبّلوا العبادة وهُم جالسون على عرش روما.
ويحدّد الرّائي اثنين من جوانب عبادة الامبراطوريّة في الأصحاح الثالث عشر: فمن ناحية نرى تجديف الوحش الّذي أعطى نفسه ألقابًا إلهيّة وادّعى سُلطان الألوهيّة: «... وَعَلَى رُؤُوسِهِ اس مُ تَج دِيفٍ ... فَفَتَحَ فَمَهُ بِالتج دِيفِ عَلَى اللهِ، لِيُجَدِّفَ عَلَى اس مِهِ، وَعَلَى مَس كَنِهِ، وَعَلَى السَّاكِنِينَ فِي السَّمَاء» (13: 1، 6). بكلماتٍ أخرى، لقد طالب الوحشُ أتباعه بإظهار الولاء الدّينيّ المُطلق الّذي لا ينبغي إلا لله الكُلّيّ القدرة وحده. لكن يُوحنّا يُدرك أيضًا أنّ عبادة الدّولة لم تُفرض إجبارًا على الرّعايا غير الرّاغبين فيها، بل لقد كانت تلك العبادة هي رد الفعل العفويّ الّذي أظهره رعايا روما حينما رأوا قوتها التي لا تُقهر (13: 3-4). أمّا الوحش الثاني الخارج من الأرض (13: 11) فيُسمّيه سفر الرُؤيا في غير مكان بـ «النبيّ الكذّاب» (16: 13، 19-20) الّذي شجّع على عبادة الامبراطوريّة من خلال وضع صورة الوحش مُعطيًّا إياها خصائص إلهيّة مُرغمًا الناس على عبادتها. رُبّما كانت تلك الصّورة مُمثّلة للكهنوت الامبراطوريّ في مُدُن مُقاطعة آسيّا. لقد نشأت عبادة الامبراطوريّة في تلك المدن بمُبادرةٍ طوعيّة من ساكني المدن أنفسهم! وعلى الرّغم من ذلك فقد رأي يُوحنّا في كتاب نُبُّوّته أنّ خطورة تلك المبادرة الوثنيّة إذ هي تُؤلّه القُوّة السّياسيّة والعسكريّة. إنّ الصّورة الواردة في 13: 16-17 تفيد أنّ كُلّ المُعاملات الاقتصاديّة كانت محظورةً على جميع من يرفض عبادة الوحش. لا شكّ أنّ هناك نوعًا من المُبالغة في هذه الصّورة بقصد تسليط الضّوء على الاتجاه الشّموليّ في ممارسة الدّين السّياسيّ بشكلٍ مُطلق.
لذا فمن الخطأ الجسيم أن نفترض أنّ سفر الرُؤيا كُتب فقط بهدف مقاومة الامبراطوريّة الرُّومانيّة بسبب الاضطهاد الّذي كانت تُمارسه ضد المسيحيين، بل بالأحرى تُقدّم رُؤيا يُوحنّا نقدًا نبويًّا لنظام السّلطة الرُّومانيّة كُلّه. إنّ النقد الأدبيّ هو ما جعل من سفر الرُؤيا جُزءًا من أدب المُقاومة السّياسيّة في القرن الأوّل الميلاديّ. ببساطة، لم يكن الأمر: «بما أنّ الامبراطوريّة الرُّومانيّة اضطهدت المسيحيين فلا بُدّ أنّ المسيحيين قاوموا السُّلطات الرُّومانيّة»، بل بالأحرى لأنّ المسيحيين أرادوا أن ينأوا بأنفسهم عن شرّ النظام الرُّومانيّ لذا فقد تعرّضوا للنبذ والتهميش والاضطهاد. في الواقع، كان زمن الاضطهاد الواسع النطاق الّذي تنبّأ عنه يُوحنّا لم يأت بعد حين كتب يُوحنّا رُؤياه مع أنّ شُهداء كثيرين كانوا قد سقطوا بالسّيف (2: 13؛ 6: 9-10؛ 16: 6؛ 17: 6). ومن خلال الرّسائل السّبع يُمكننا أن نكتشف أنّ الاضطهاد كان مُتقطّعًا ومحليًّا فقط، لكن يُوحنّا يرى أنّ طبيعة القوّة الرُّومانيّة تجعل المعادلة صفريّة: فما دام المسيحيّون أُمناء لربّهم ولشهادتهم عن الله الحيّ الحقيقيّ فلا بُدّ أن يُقاسوا من الصّدام الحتميّ مع من يُقدّمون ولاء العبادة للإمبراطورية.
من وجهة النظر النبويّة ليُوحنّا فإنّ شرّ روما يكمُن بالدّرجة الأُولى في تأليه قوتها العسكريّة وازدهارها الاقتصاديّ إذ أنّ روما قد أوجدت هذه القوّة العسكريّة الاقتصاديّة على حساب ضحاياها. واستنادًا إلى ما ورد في 18: 24 لم يكن ضحاياها هُم الشّهداء المسيحيّون فقط بل أيضًا كُلّ الأبرياء الّذين ذبحتهم قُوّةُ روما العسكريّة التي ستُدان من الله لأنهم سفكُوا «دَمُ أَن بِيَاءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجَمِيعِ مَن قُتِلَ (بالأحرى ذُبحوا) عَلَى الأَرضِ». بالتالي، هناك إحساس بأنّ الرّائي يأخذ بالجانب الخفيّ من التاريخ الّذي يكتبه ضحايا القُوّة والمجد الرُّومانيّين. إنّه يأخذ بهذا المنظور ليس لأنّه (أو لأنّ سائر المسيحيين) ينتمي بالضّرورة إلى الفئات التي عانت الاضطهاد بدلًا من أن تأخذ حصّتها من المجد والازدهار الرُّومانيّ، بل إنّه ينظرُ من هذه الزّاوية لأنّ أمانة المسيحيين لإلههم ولشهادتهم، ومُقاومتهم للقمع الرُّومانيّ، وانسلاخهم من شرّ المجتمع الرُّومانيّ، كُلّ ذلك سوف يُؤدّي إلى جعلهم ضحايا للنظام الرُّومانيّ جنبًا إلى جنب مع ضحايا آخرين. إنّ ما يُميّز الاضطهاد المسيحيّ أنّه يزيد الصّورة وضوحًا، فهؤلاء الّذين يحملون الشّهادة للإله الواحد الحيّ الحقيقيّ الّذي تخضع له جميعُ القوى السّياسيّة يفضحون وثنيّة روما التي تُؤلّه نفسها.
هذا يعني أنّ القوّة التي تُقاوم روما تنبُع أساسًا من الإيمان المسيحيّ بالله الواحد الحقيقيّ. فعدم الخضوع للقوّة الرُّومانيّة وعدم تمجيد عُنفها وازدهارها الاقتصاديّ يتطلّب منظورًا بديلًا للأيديولوجيّة الرُّومانيّة التي تسود الحياة العامة. بالنسبة ليُوحنّا ولكُلّ من يشاركه إيمانه النبويّ، كانت رؤية الإله الّذي لا مثيل له، المرتفع فوق كُلّ السّلاطين والقُوّات البشريّة، قد جعلت من قُوّة روما العسكريّة ومن طموحاتها الدّينيّة لمُمارسة الألوهيّة نوعًا من مُمارسة الوهم الخطير. هذا هو السّبب الّذي دعا يُوحنّا إلى الكتابة عن نقده الشّديد لروما تاليًا لحديثه عن رؤياه لحكم الله وعدالته في الأصحاح الرّابع، ففي نور الله يُدان القمعُ والاستغلالُ الرُّومانيّين. وفي ضوء ربوبيّة الله وسيادته على التاريخ البشريّ بدا واضحًا أنّ روما لا تملك القوّة المُطلقة ولا يُمكن أن يستمر نظامُها الجائر إلى الأبد. لذلك فإذا بدا لنا أنّ رُؤيا يُوحنّا تتبنّي منظور «الجانب الخفيّ من التاريخ» فذا لأنّ هذا المنظور هو وُجهة نظر السّماء الّذي أُعطيّ ليُوحنّا من قاعة العرش السّماويّ. هذا العرش الّذي يجعل من ذلك المنظور أمرًا مُمكنًا.
[1] Cf. K. Wengst، Pax Romana and the Peace of Jesus Christ (London: S C M Press، 1987)، part I.
[2] On this paragraph، see R. Bauckham، 'The Economic Critique of Rome in Revelation 18'، in L. Alexander، ed.، Images of Empire (JSOTS% 122; Sheffield: JSOT Press، 1991)، 47-90، which becomes chapter lo in Bauckham، The Climax of Prophecy.
[3] See Chapter 11 ('Nero and the Beast') in Bauckham، The Climax of Prophecy.