هل يمكن أن يعرف الإنسانُ موعدَ موته؟ هل يمكن أن يختارَ المرءُ طريقةَ خُروجِه من هذا العالم إلى العالم الآخر؟ هل يمكن أن يُخيّر الإنسان أيّ الميتات يموتها؟ أن يموت على سريره ووسط أهله وأحبابه، أو أن يموت بطريقة أخرى؟!
إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة واضحة وُضوح الشمس: لا، كلا، لا يمكن .. كل هذه الأسئلة إجابتها النفي القاطع!
ومع ذلك، وللأمانة العلميّة، أعترف بأنني وجدتُ من البشر من شَعَرَ بدُنُو أجله قبل أن يلقى رَبَّه مباشرة: بعضُ لاعبي الملاكمة استشعروا اقتراب الأجل قبل مباريات كانت الأعنف في تاريخ اللعبة. وكذلك بعضُ المحاربين قبل أن يشنَّ عليهم الأعداءُ الغاراتِ الجويّة .. بعض المسافرين قديمًا وحديثًا قبل أن يركبوا السفن أو الطائرات... بعض المنتحرين قبل أن يُقدموا على هذه الخطوة الأسيفة!
لكن وللأمانة أيضًا، لم أقرأ في حياتي عن شخص تنبّأ عن موعد موته على وجه الدقّة، وعن الطريقة التي سيموت بها، وعن أحداث هذا الموت وتفاصيله إلا المسيح وحده. لقد تنبّأ المسيح عن موته ثلاث مرّات، كما أخبر تلاميذَه عن طريقة موته (مُعلَّقا فوق الصليب)، وعن تفاصيل هذا الموت وأحداثه. نقرأ في إنجيل البشير متّى عن نبوّات المسيح بخُصوص موته، كما دوّن لنا البشير مرقس كذلك هذه النبوات الثلاث في بشارته الأصحاحات ٨، ٩، ١٠ .. لكنني هنا سأكتبها كما دوّنها البشير متّى:
- «مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلًا: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاس» (متّى ١٦: ٢١- ٢٣).
- «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ابْنُ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». فَحَزِنُوا جِدًّا» (متّى ١٧: ٢٢-٢٣).
- «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذًا عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى ٢٠: ١٧-١٩).
ما الحقائق التي يقولها المسيح بشأن خُروجه من هذا العالم؟
إنّ المسيح اختّص التلاميذ الاثني عشر وحدهم (الحواريين) بهذا الإعلان الخاص بموته. من الواضح أن إمكانية الإيمان بمسيّا مُتألّم ومصلوب ومُهان كانت إمكانية ضعيفة عند الجميع، بل حتى تلاميذ المسيح الذي عاشوا معه، وعاينوا عظمته، وشاهدوا بأنفسهم آياتِ تميّزه وتفردُّه كانوا غير قادرين على الاستيعاب تمامًا. لقد كانوا يحلمون –كبقية الشعب اليهوديّ- بمسيّا الله الذي ينصُر اليهود على الجنود الرُّومان الأجلاف، الذين أذاقوهم مرارة الاحتلال والاستعباد. كانوا يرغبون في الخضوع لمسيّا يعيد لهم أمجاد مملكة داود واتساع مملكة سليمان ورخائها. كانوا يريدون البركات الاقتصاديّة والزمنيّة حتى يعوّضهم المسيا عن أزمنة الفقر والجوع. لكنهم لم يكونوا مستعدين بالمرّة لقُبول المسيّا المتألم.
ترتيبًا على ذلك، انتابت التلاميذَ مشاعرُ الحزن واليأس، حين قال لهم المسيح عن أحداث موته قبل أن تتم هذه الأحداث. ولعل بطرس – مِقدام التلاميذ والمتحدّث الرسميّ باسمهم- كان يتكلّم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن باقي التلاميذ حين تجرّأ، وهو التلميذ، فانتحى بالسيد جانبًا وابتدأ يوبِّخ يسوع وينتهره! ولنا أن نسأل: كيف طاوعت بُطرسَ نفسُه ليُقدِم على انتهار مُعلمه وسيده؟ الإجابة: لقد كان بطرس وسائر التلاميذ رافضين لطريقة يسوع في الطاعة للآب وفي التضحية بنفسه من أجل فداء البشر.
كيف أجاب يسوع على سؤال بطرس واستنكاره لفكرة الصلب؟ قال له يسوع منتهرًا وموبِّخًا: «اذهب عني يا شيطان: أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس» (الآية ١٦: ٢٣). لنلاحظ أن المسيح كان قد سبق، قبل قليل، فأثنى على بطرس وامتدحه حين اعترف بطرس الاعترافَ الحسن قائلًا إنّ يسوع هو «المسيح ابن الله الحي»، وعندئذ طوّبه يسوع قائلًا: «طوباك يا سمعان بن يونا. إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك، بل أبي الذي في السماوات .. وأنا أقول لك: أنت بطرس (الصخرة)، وعلى هذه الصخرة – صخرةِ هذا الإيمان القويم- أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (١٦: ١٨). لماذا تغيّر موقف المسيح بالنسبة لبطرس؟ الإجابة: لأنّ المسيحَ رأى في كلمات بطرس مُحاولة «شيطانية» لإثنائه عن الصليب. كان المسيح يعلم جيّدا أن الآب قد أرسله إلى العالم لأجل هذه الساعة؛ ساعة الصليب. وكان يعلم أن نجاتَنا نحن البشر، من دينونة خطايانا ومن عقابِنا الأبديّ بسبب هذه الخطايا، لا يمكن أن تتحقق إلا متى استوفت عدالةُ الله الجزاءَ. هكذا قال له –فيما بعد- المجتمعون عند الصليب- مُستهزئين: «خلّص آخرين، أمّا نفسه فما يقدر أن يخلصها» (متى ٢٧: ٤٢). ورغم مرارة الكلمات وقسوة الاستهزاء، إلا أنّ هذه الجملة صحيحة تمامًا؛ فموت المسيح على الصليب هو ما يُخلِّصنا من خطايانا. كان على المسيح أن يختار بين سلامته الشخصيّة، أو سلامتنا ونجاتنا نحن. لذا أسلم ذاته لأجلنا حتى يُخلِّصنا من عقاب شرورنا وموتنا الأبدي.
كان المسيح يعلم تمامًا بكل تفاصيل المؤامرة التي تُحاك ضده، والتي ستؤدّي في النهاية إلى موته مُعلَّقا على الصليب. لقد أشار يسوع إلى الدور القذر الذي لعبه رجالُ الدين اليهودي من كتبة وفريسيين. كان رجال الدين قد استشعروا الخطر بسبب شعبيّة المسيح الجارفة والتفاف الجموع حوله، فأكل الحقدُ والغيظُ والحسدُ قلوبَهم. لهذا دوّن لنا البشير متّى أنَّ بيلاطس الوالي «علم أنهم أسلموه حسدًا» (٢٧: ١٨). كذلك كان تطهير الهيكل (ربّما للمرّة الثالثة) إمعانا من المسيح في فضح طمع رجال الدين من الصّدوقيين، دافعًا لهم لكي يحوّلوا بيت الله إلى بيت تجارة، ضاربين بكلِ قدسيّة البيتِ عرضَ الحائط. لقد كان برُّ المسيح كاشفًا لخطاياهم، وكمالُه فاضحًا لنقص محبتهم لله وتفضيلهم المصلحة المادية على احترام بيت الله، وكانت قداستُه الكاملة سببًا في إيذاء أعينهم الرمداء التي كرهت النور!
والأكثر من ذلك، كان المسيح يعرف جيدًا أن رجال الدين لا بد أنهم سيسلمونه إلى أيدي الأمم الذين سيهزأون به ويجلدونه وسيصلبونه. ورغم أن المحكوم عليه بالموت صلبًا كان لا يُجلَد أبدًا، لكن من المدهش أن يسوع عرف وتنبّأ أن بيلاطس سوف يجلده، في محاولة لاستعطاف قلوب اليهود المشتكين على المسيح، حتى يتمكن من إطلاقه. لكن النتيجة السيئة أن بيلاطس ارتكب الجريمتين معًا، فبعد أن جلد يسوع لاسترضاء اليهود، حاول أن يطلقه. فلما رفضوا محاولته، أسلم يسوع لمشيئتهم فصلبوه! لقد كان الصليب بالنسبة ليسوع هو اللحظة التي فيها اجتمع الخُصومُ معًا من أجل تحقيق غايتِهم الشريرة، فصار صليبُ المسيح الدليلَ على إدانة البشريّة كلها التي لم تعرف ربَّها وسيدها بل اجتمعت ضده. لقد «قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع قيودهما ولنحل عنا رُبطهما» (المزمور ٢: ٢).
لكن الأغرب من الكل أن المسيح عرف أن هذا الموت ليس هو نهاية المطاف، فالصليب سيعقبه القيامة، والنور سوف يهزم ظُلمةَ القبر، والحياة سوف لا تتوقف بسبب الموت. قال المسيح للتلاميذ إنه «في اليوم الثالث يقوم». الغريب أن التلاميذ لم يفكروا في عظمة القيامة بل انحصر تفكيرهم فقط في بشاعة الموت على الصليب. لقد أكّد المسيحُ لتلاميذه في كل إعلان من الإعلانات الثلاثة أنه سيقوم من بين الأموات، لكن البشير متّى لم ينسَ أن يدوِّن لنا أن ردّة فعل التلاميذ أنهم «حزنوا جدّا» حينما سمعوا خبر موته القريب فوق الصليب.
كم نشكر الله من كل القلب: فالموت ليس هو النهاية، بل الحياة. القبر ليس هو المصير الأخير بل القيامة. لقد «تعيّن ابن الله بقُوّة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات: يسوع المسيح ربنا» (رومية ١: ٤). ولولا القيامة لما كنّا قد تيقنا من هويّة المسيح كالمُخلِّص والرّب. ولولا القيامة لما كنا قد تأكدنا من قُبول الآب لتلك الذبيحة الكفاريّة التي نالت الرضى الكامل، وبسببها صار لنا الدخول بجراءة إلى الله القدوس الذي يقبلنا في ابنه المحبوب، ويرضى عنا فيه كل الرضى. هليلويا .. مجدًا للحمل المذبوح لأجلنا.
عزيزي القارئ،
بإمكانك أن تحصل على هذا اليقين: أن الله قد أحبك .. أن الله قد رضيّ عنك بالتمام، وأنه سيمنحك الحياة الأبديّة حُبّا لك، لأنك أحببتَ الابن المبارك .. لأنك قبلتَ ما فعله لأجلك على الصليب، ولأنك خصّصتَ منافع هذا الموت لنفسك بالإيمان به.
قال الإنجيل: «إن كل الذين قبلوه (أي قبلوا الإيمان بالمسيح)، أعطاهم المسيحُ سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، أي المؤمنون باسمه .. الذين ولدوا ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله». إنّ الإيمان بالمسيح هو بمثابة ولادة من جديد .. ولادة روحيّة من الله؛ الروح القدس .. ولادة في عائلة جديدة هي عائلة الله .. وبدُون الولادة الجديدة لن يرى الإنسان ملكوت الله ولن يدخله.
هل تقبل؟
هل تفتح قلبك له فيحسب لك بركات صلبه وقيامته؟
هل تقتنع بأن مسيحًا غير مصلوب ليس مسيحًا على الإطلاق؟
قل له: «يا رب: أنا أقبل ما فعله المسيحُ من أجلي على الصليب، وأحتمي في دمِه المبارك من غضب عدالتك بسبب خطيتي. اقبلني به، ولأجل اسمه، فأقبل منك نعمةً ورسالةً في جميع الأمم. آمين».