كتب أحد الشعراء المسيحيين شدوًا قال فيه:
أيُّها الإنسانُ يا مَنْ
تِهتَ في كُل طريق
تبتغي مُلكًا وَسيعا
تشتهي كلَّ بريق
أيَّ نفعٍ أنت ترجو
لو ربحتَ العالمين؟
وخسرتَ النفس حالًا
وغدا الكُلُّ حريق؟
أيُّها الإنسان مهلًا
أنت روحٌ وجسد
كُلُّ ما في الكون قد
ينفعُ حينًا لا أبد
أنت لا يُغنيك إلا
ربُّك الحيُ الصمد
عنده تلقى عزاءُ
وشفاءً وسند
هذه الكلمات الجميلة مُقتبسة من قول شهير للمسيح: «ماذا ينتفع الإنسان لوربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يُعطي الإنسانُ فداءً عن نفسه؟» (مَتَّى 16: 24- 27).
إنَّ أوّل ما يُلاحظ في هذا السؤال هو أنّه سؤال استنكاريّ؛ بالطبع قصد المسيح أن يقول «لو خسر الإنسان نفسه فلا شيء يمكن أن يعوِّض له هذه الخسارة». هل يمكن أن تُقايض عينَ الإنسان بجوهرة أو ماسة غالية؟! هل يبيعُ الإنسانُ نفسَه من أجل أن يمتلك شيئًا ما؟ هل يمكن أن يُتصوَّر ذلك؟! إنّ نفس الإنسان غالية بل أغلى من الدنيا بأسرها.
أما الشيء الثاني الذي يُميّز هذا السؤال إنه سُؤال بلا إجابة: فكِّر في شيء يمكن أن تقايض نفسك به: المال؟ المتعة؟ العلم؟ مهما كانت قيمة هذه الأشياء فهي في النهاية مُجرّد «أشياء»، أمّا النفس فهي الكينونة أو الـ «نحن»! ولا يمكن أن يستعيض الفرد عن نفسه بشيء ما!
مَنْ من البشر جرَّب هذه البدائل جميعها؟ وماذا قال بعد امتلاكها؟
استمع معي إلى هذه الشهادة التي كتبها أحد أعظم الملوك الأغنياء الذين عاشوا قبل مجيء المسيح. يقول الملك سليمان:
«فَعَظَّمْتُ عَمَلِي:
بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتًا،
غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُومًا.
عَمِلْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَفَرَادِيسَ،
وَغَرَسْتُ فِيهَا أَشْجَارًا مِنْ كُلِّ نَوْعِ ثَمَرٍ.
عَمِلْتُ لِنَفْسِي بِرَكَ مِيَاهٍ لِتُسْقَى بِهَا الْمَغَارِسُ الْمُنْبِتَةُ الشَّجَرَ.
قَنَيْتُ عَبِيدًا وَجَوَارِيَ، وَكَانَ لِي وُلْدَانُ الْبَيْتِ.
وَكَانَتْ لِي أَيْضًا قِنْيَةُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُورُشَلِيمَ قَبْلِي.
جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضًا فِضَّةً وَذَهَبًا وَخُصُوصِيَّاتِ الْمُلُوكِ وَالْبُلْدَانِ.
اتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَتَنَعُّمَاتِ بَنِي الْبَشَرِ، سَيِّدَةً وَسَيِّدَاتٍ.
فَعَظُمْتُ وَازْدَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ،
وَبَقِيَتْ أَيْضًا حِكْمَتِي مَعِي.
وَمَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا.
لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ،
لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي.
وَهذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي.
ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ،
وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ،
فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْس» (الجامعة 2: 4- 11).
والشيء الثالث الذي يميِّز هذا القول الحكيم الذي خرج من فم المسيح أنه قول مرتبط بالصليب، فالآية 24 تقول: «حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي». لقد سبق للمسيح أن تكلَّم عن حمل الصليب قبل ذلك فقد قال لتلاميذه سابقًا «من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني» (متّى 10: 38). يقينًا أثارت هذه الكلمة في أذهان التلاميذ صُورةً للموت العنيف والمهين الذي يُستخدم فيه الصليب كآلة تعذيب وإعدام (27: 31). وكأن المسيح كان يطلب منهم ولاءً كاملًا وغير منقوص؛ ولاءً دائمًا ومُطلقًا وغير مشروط؛ ولاءً أصيلًا ولو أفضى ذلك إلى موتهم. لقد جعل يسوع هذه الدعوة إلى التسليم الكامل جُزءًا من الرسالة التي سيعلنونها للآخرين. ولقد تكرّرت هذه الدعوة إلى التسليم الكامل للمسيح مرّات ومرّات في البشائر الأربعة (مرقس 8: 34؛ لوقا 9: 23؛ 14: 37). إنَّ الصليب هو العمود الفقري للمسيحيّة الحقّة، فلا يمكن للمسيحيين الحقيقيين أن يتخيّلوا وجود مسيحيّة بلا صليب! وها نحن نرى المسيح يُطالب أتباعه أيضًا بحمل الصليب، ففي حمل الصليب إنكارٌ للذات ونوالٌ للحياة الحقيقيّة والأبديّة (16: 39). إنَّ الأحباء الذين اقتنعوا بأن المسيح لك يُصلب لم يدركوا بعد جسامةَ الخطيّة في نظر الله وكم هي كريهة في عينيّه، لذا فهم لم يتمكّنوا من إدراك المعنى الحقيقيّ للصليب!
وبوُضوح، يُعلِّمنا الكتاب المُقدَّس أنّ كُلَّ من هو غير مستعد لأن ينكر نفسه لا يقدر أن يَدعّي بأنه تلميذ للمسيح، وتبعيتنا للمسيح تعني -ضمن ما تعني- إنكارَ الذات، إلى حد الموت، متى لزم الأمر!
ثم يقول يسوع: «فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (16: 25). وهذه الآية -كغيرها من آيات الإنجيل- تحمل تناقُضًا ظاهريًا عجيبًا، وهذا التناقُض الظاهري يحمل لنا بدورِه حقيقة رُوحيّة مُهمّة فأولئك الذين يسعون وراء رغد العيش والرفاهية والحياة الناعمة لن يجدوا حياة أبدية. أمّا هؤلاء الذين يُقدِّمون حياتهم من أجل المسيح والإنجيل فهم يجدونها. قال يسوع مرّةً: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّة» (يوحنا 12: 24-25).
وبهذه الكلمات الشهيرة يُحرِّض المسيحُ تلاميذَه على التفكير في مصيرِهم الأبديّ وعلى التركيز في الأمور الأساسيّة؛ فليس هُناك من هو أشدُّ غباءً من شخصٍ رَبِح العالم كلَّه ولكنه خسر نفسه في النهاية! وبالمُقابل – وكما قال جون إليوت- «ليس غبيًّا من يترك شيئًا لا يستطيعُ الاحتفاظَ به في مقابل أن يربحَ شيئًا آخر لا يمكن أن يُفقَد إلى الأبد». سيحيا كلٌ منّا إلى الأبد إمّا في السماء أو في الجحيم، فإذا جاز لنا أن نتصوَّر أن العالم قدِّم للإنسان كل ما يشتهيه وأكثر لكن هذا الإنسان محرومٌ من المسيح، فهذا يعني أنّ ذلك الإنسان البائس مُفلسٌ من جهة الأبديّة، وكُلّ مُقتنياتِ الأرض وكنوزِها لا يمكن أن تعوِّض للإنسان خسارةَ نفسِه في جهنم النار مع إبليس وجنوده!
عزيزي القارئ،
لقد قرأتُ عشراتِ القَصص عن حياة أناس كثيرين امتلكوا كُلّ شيء (حرفيًا كُلّ شيء) إلا المسيح، وكان الأمر الوحيد المُشترك هو التعاسة التي صاحبت هذا النوع من الحياة! لكن بالمقابل، ما أعظم الحياة التي تلمسها النعمة فتتجدّد وتتغيّر وتصير خليقة جديدة في المسيح يسوع ربنا. ولنا في حياة رُسُل المسيح الأطهار والأم تيريزا وليليان تراشر وديفيد ليفنجستون وغيرهم القُدوة والمثال. كتب الرسول بولس قائلًا: «إذًا، إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكُلّ قد صار جديدًا، ولكن الكُل من الله الذي صالَحنا لنفسه وأعطانا خدمة المصالحة، أي أن الله كان في المسيح مًصالِحًا العالم لنفسه غير جاسِب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المُصالحة» (٢كورنثوس ٥: ١٧- ١٩).
أخيرًا فإنّ هذه الآية «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه» تُرى في ارتباطها بحقيقة مجيء المسيح مرّة ثانية إلى عالمنا. قال يسوع في الآية اللاحقة «فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ» (16: 27). لقد جاء يسوع قبل ألفيّ عام لكي «يطلب ويُخلص ما قد هلك» (لوقا ١٩: ١٠). جاء لتكون لنا حياة وليكون لنا أفضل (يوحنا 10:10) جاء «ليصنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا» (العبرانيين 1: 4). لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس 10: 45). جاء يسوع كـ «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا ١: ٢٩ ) فـ «لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس» (يوحنا الأولى ٣: ٨). لكن المسيح سيأتي ثانية قريبًا جدًا .. سيأتي ديّانًا للعالمين .. سيقف الكُلُّ أمامه لكي يدانوا ويُحاسبوا: «لأننا ينبغي أننا جميعًا نُظهر أمام كرسي المسيح لكي ينال كل منا بحسب ما صنع بالجسد، خيرًا كان أم شرًا» ( كورنثوس الأولى 10: 13).
والسؤال الذي يُواجه كلًا منّا:
هل أنت مُستعد لمجيء المسيح ثانية؟
هل ستقف أمامه في يوم الدينونة العظيم محتميًا في برِّه وفِعل دمِه،
أم أنّك ما زلتَ رافضًا لمحبته مُقسٍّ لقلبك؟!
إن الربّ يسوع أحبّك من قلبه، لقد بذل نفسه على الصليب من أجلك .. والتجاوب الوحيد الذي يطرحه الكتاب المقدّس هو: لقد مات يسوع «لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات من أجلهم وقام» (١كورنثوس ٥: ١٥) .. .. لقد مات هو لكي تعيش أنت. تعيش له في البِر والقداسة والمحبّة والنور .. تترك له زمام قيادتك بالتمام ليُوجِّهَك هو حيثما يريد .. ليكون هو ملكًا وربّا وسيدًا .. ليكون يسوع مخلصك وفاديك، لا قاضيك وديّانك .. ليكون الله هو الكل في الكل.
هل تقبل إليه؟
هل تتجاوب مع نداءات محبته؟
هل تطيع صوت الروح القدس العامل في قلبك؟
ليتك تصغي إليه فيكون كنهر سلامك!
إنَّ الحياة التي تُخلى وتُسكب في خدمة المسيح في هذا العالم ستجد تمتُّعها وتعبيرها الكامليْن فيما بعد؛ في الحياة الأبديّة. ماذا يخسر الإنسان لو ترك العالم كلَّه وربح نفسه؟