من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا
تأليف
ريتشارد بوكهام
ترجمة
أشرف بشاي
إنّ الفكر اللاّهُوتيّ لسفر الرُّؤيا يدور أساسًا حول مركزيّة الله؛ وبالتوازي مع المبدأ المُميّز لشخص الله فإنّ هذين الأمرين: مركزيّة الله وصفات الله هُما معًا الإسهامُ الأكبر لسفر الرُؤيا في مجال لاهوت العهد الجديد. إنّ دراستنا لهذا السفر تنطلق من هذا الإيمان، وتستمر معه، وتنتهي به.
الطّبيعة الإلهيّة
في افتتاحيّة السفر، يُصوّر يُوحنّا الطّبيعة الإلهيّة في ثلاث تعبيرات:
«نعمةٌ لكُم وسلامٌ من الكائن والّذي كان والّذي يأتي، ومن السّبعة الأرواح التي أمام عرشه، وَمِن يَسُوعَ المَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، البِكرِ مِنَ الأَموَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرض».
تُعدُّ هذه الكلمات جُزءًا أصيلًا ولا يتجزّأ من افتتاحيّة الرّسالة الموجودة في العددين الرّابع والخامس. في الرّسائل القديمة كانت التحيّة تأتي بعد ذكر اسم الرّاسل والمُرسل إليه. وفي التقليد اليهُوديّ القديم أخذت هذه التحيّة شكل تمنّي البركة أو سؤال البركة من الله للمُرسل إليهم. إنّ المُمارسة المسيحيّة الباكرة تميّزت بإعطاء صبغة مسيحيّة لمُقدّمات الرّسائل إذ أوضحت دائمًا أنّ مصدر تلك البركة هو الله (أو يسُوع المسيح أو كلاهما معًا). وفي الرّسائل البُولُسيّة نقرأ، عادة، الصّيغة القياسيّة للبركة «نِع مَةٌ لَكُم وَسَلاَمٌ مِنَ اللَّهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ ال مَسِيح» (رومية 1: 7؛ كُورنثوس الأُولى 1: 3؛ كونثوس الثانية 1: 2؛ غلاطيّة 1: 3؛ أفسُس 1: 2).
هذه الصّيغة مُعتبرة لاهوتيًّا جدًا إذ أنّها تستبدل اسم الله باسم يسُوع المسيح في تمييز واضح بينهما باعتبار أنّ كُلًا منهما هو مُعطي البركة للبشر الّذين يستقبلون البركة من كُلٍّ منهما. إنّها تحيّة تكشف كيف تعامل المسيحيّون الأوائل مع حقيقة الثالوث ببساطة وتلقائيّة باعتبار أنّ يسُوع هو مصدر البركات المتدفّقة من الله إلى البشر حتى لو لم يكن لديّهم أيُّ تصوُّر عن كيفيّة حدوث ذلك.
ومن بين كُلّ كُتّاب الأسفار المسيحيّة يتميّز يُوحنّا بمُقدّمات الرّسائل التي «تمتلئ» بالثالوث. إنّ صيغة اللاهوت تردُ أيضًا في افتتاحيّات رسائل أخرى بخلاف تلك التي كتبها يُوحنّا (مثل بُطرُس الأُولى 1: 2)، لكن الصّيغة التي تردُ في كتابات يُوحنّا فريدةٌ حقًّا. من المُحتمل جدًا أن تكون هذه الصّيغة «نعمةٌ لكُم وسلامٌ من الله أبينا والرّبّ يسُوع المسيح» من بنات أفكار الرّسول يُوحنّا. إنّ هذه الصّيغة تدعم عبارتيّ «الله أبينا» و «ربّنا يسُوع المسيح» اللتين تظهران في أماكن أخرى كثيرة من سفر الرُّؤيا. كُلُّ هذه الأفكار وغيرها تؤكّدُ أنّ كتابات يُوحنّا تعكسُ فهمًا مسيحيًّا راقيًّا لفكر الألوهيّة والثالوث المسيحيّ. وبدون التوغُّل في الحديث عن الفكر المسيحيّ الباكر عن الألوهيّة، والمسيح، والرّوح القدس فقد أوجد يُوحنّا لنفسه تعبيرات خاصة لوصف الأقانيم الثلاثة في اللاهوت المسيحيّ، وهذه التعبيرات ليست جديدة تمامًا بل هيّ مُستوحاة من التقليد اليهُوديّ واليهُودي-المسيحيّ مُستخدمًا بطريقة خلّاقة. لقد خرج كتاب الرُؤيا نتيجة لوعي يُوحنّا المُتزايد بشخص الله، لذا فإنّ أيّ شرحٍ لالفكر اللاهوتي لسفر الرُّؤيا يجب أن يأخذ في الحُسبان هذه الأساليب المميّزة للحديث عن «الله» في الفكر المسيحيّ تمامًا كما فعل يُوحنّا بالضّبط في كتابه.
إنّ السّمات المميّزة الواضحة في مُقدّمة كتاب الرُؤيا تُبيّن أنّ يُوحنّا يتعمّد إبلاغ القُرّاء لمفهومه الخاص عن وحدانيّة الله المُثلثة الأقانيم في الفكر المسيحيّ، لكنني أوجّهُ عناية القارئ هنا إلى الانتباه لحقيقة عدم انتساب المفهوم الآبائيّ الخاص بالتوحيد إلى يُوحنّا، إذ أنّ هذا المفهوم قد أصبح جُزءًا من التقليد المسيحيّ لاحقًا. وكما سنقرأ في الأصحاحين اللاحقين، فإنّ الاهتمام اللاهوتيّ المُعطى للفهم اليُوحنّاويّ للثالوث هو بنفس درجة أهميّة المبدأ الآبائيّ المُتطوّر لتلك العقيدة، إذ كان الاهتمام ينصبُّ على دمج الإيمان بيسُوع وبالرّوح القدس إلى الإيمان اليهُوديّ التوحيديّ بالله. يجب على الدّارس أن يتفهّم هذه الاستجابة في ظل ظروفها الخاصّة. بطبيعة الحال، يكاد يكون من المستحيل وصف وتحليل الفهم اليُوحنّاويّ لله بدون استخدام لغة لم يستخدمها يُوحنّا نفسُه. لقد استخدمتُ الكلمة «وصف الطّبيعة الإلهيّة» بدلًا من «وصف الله» لأنّ يُوحنّا -نظير كُلّ الكُتّاب المسيحيين الباكرين- يربط استخدام لفظ «الله» بالله الآب أبي ربّنا يسُوع المسيح فقط، وهو الشّخص الموصوف بالكلمات «الكائن والّذي كان والّذي يأتي»، لكن الطّبيعة الإلهيّة أكثر «شمولًا» من ذلك. لا يوجد لدى يُوحنّا الكلمات التي يُمكن أن تُعادل المفهوم اللاحق الّذي يُعبّر عن طبيعة الثالوث المسيحيّ التي يتشارك فيها ثلاثةٌ من الأقانيم. من المستحيل علينا أن نتكلّم بعدالة تجاه التعليم اليُوحنّاويّ بدون أن نتكلّم بعض الشّيئ عن الطّبيعة الإلهيّة لكُلّ من يسُوع المسيح والرّوح القدس (الّذي يُرمز له هنا بـ «سبعة أرواح الله») كشريكين في الألوهيّة.[1]
إنّ الأهميّة التي يُوليها يُوحنّا لفهم الطّبيعة الإلهيّة المُثلثة الأقانيم في 4ب، 5أ يُمكن أن تُبرّر استخدامنا في الجزء الرّئيسيّ لحديثنا عن الفكر اللاهوتي لسفر الرُّؤيا في الفصول 2-5. لا يمكن أن يوجد لدينا هيكلٌ مُرضٍ بالتمام، لكن هذا الهيكل يُقدّم واحدًا من الملامح الرّئيسيّة لسفر الرّؤيا. ومع ذلك، فمن أجل تسهيل الدّراسة للقارئ فإنّنا سوف نتبع نموذج: الله، المسيح، الرّوح القُدُس بدلًا من تلك المُسمّيات التي يستخدمها يُوحنّا في 4ب، 5.
الألف والياء
تنتهي مُقدّمة سفر الرُؤيا بالإعلان الإلهيّ القائل: «أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَاليَاءُ، البَدَايَةُ وَالنهَايَةُ» يَقُولُ الرَّبُّ الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي، القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيء» (1: 8). تتضمّن هذه الآيّة ثلاثةً من الأربعة التعيينات/الأوصاف التي يُطلقها الرّائي على الله: الألف والياء، والرّب القادر على كُلّ شيئ، الكائن والّذي كان والّذي يأتي. تبرُز أهميّة هذه الكلمات ليس فقط لأنّها المقدّمة الاستهلاليّة لكتاب رُؤيا يُوحنّا (1: 9 – 22: 6)، بل أيضًا لأنّها تأتي في سياق إحدى مناسبتين اثنتين فقط تكلّم فيها الله نفسه في هذا السفر. تأتي المرّة الثانية في 21: 5-8 لتقدّم إعلانًا إلهيًّا مُشابهًا «ثُمّ قال لي: «قد تمّ! أنا هُو الألفُ والياءُ، البداية والنهاية. أنا أُعطي العطشان من ينبُوع ماء الحياة مجّانًا». ويرتبط هذان الإعلانان المُختّصان بالله الآب بإعلانين آخرين يختّصان بيسُوع المسيح. إنّ النموذج يسيرُ كالآتي:
الله الآب: «أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَاليَاء» (1: 8).
يسُوع المسيح: «أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر» (1: 17).
الله الآب: «أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَاليَاءُ، البِدَايَةُ وَالنهَايَة» (21: 6).
يسُوع المسيح: «أَنَا الأَلِفُ وَاليَاءُ، البِدَايَةُ وَالنهَايَة» (22: 13).
سنؤجّل مناقشة الأهميّة القصوى لهذا النموذج للفصل التالي، وكذا سندرس حقيقة التعيين الإلهيّ التي تُنسب لله الآب وللرب يسُوع المسيح في آن. هنا يجب أن نحصر نفوسنا في التعيين كما يُمارسه الله فقط. لكن مُقارنةً بين الآيات الأربع تكشفُ لنا أنّ المقاطع الثلاثة: «الألف والياء، الأوّل والآخر، البداية والنهاية» هي مقاطع مُترادفة إذ أنّ الألف والياء هُما الحرفان الأوّل والأخير من الأبجديّة اليونانيّة. ليس من الصّعب أن يكتشف القارئ أنّ عبارة الأوّل والآخر تتساوى مع عبارة الألف والياء ويتساوى كلاهما مع عبارة البداية والنهاية. ولأنّ العبارات الثلاثة تتساوى فإنّ الرّائي يُظهرُ أيضًا أنّ هناك سبعة إظهاراتٍ لهذا المصطلح يتكلّم بها الله والمسيح في سفر الرُؤيا (هذا إذا لم نلتفت إلى المرّة التي ورد بها مُصطلح «الأَوَّلُ وَالآخِر» في 2: 8 إذ تُعتبر تلك المرّة ترديدٌ أو صدى لما جاء في 1: 17). لا يبدو عدد ورود هذا المُصطلح من قبيل الصّدفة إذ أنّ اثنتين من التسميّات الإلهيّة الثلاث الأخرى والأكثر أهميّة يرد كُلٌ منهما سبع مرّات في سفر الرُؤيا كما سنرى لاحقًا. بالحقيقة إنّ للأنماط/للنماذج العدديّة أهميّةً لاهوتيّة كبيرة في سفر الرّؤيا، فالرّقم 7 هو عدد الكمال. وبالمثل، نقرأ في سفر الرُؤيا عن سبع تطويبات -مُتفرّقة عبر السفر- لمن يقرأ ولمن يسمع ويطيع أقوال نُبُّوّة هذا الكتاب طاعةً كاملة (1: 3؛ 14: 13؛ 16: 15: 19: 9؛ 20: 6؛ 22: 7، 14). لذا فإنّ ذكر المرّات السّبع لإعلان الله عن نفسه «أنا هو الأوّل والآخر... والنهاية» يُظهر كمال الطّبيعة الإلهيّة (للآب)، وهذا هو المعنى اللاهوتيّ الدّقيق لما كتبه يُوحنّا في رُؤياه.
ولقد استمدّ يُوحنّا مُصطلح «الأوّل والآخر» من سفر إشعياء، حيث ورد المُصطلح هناك -كما ورد في سفر الرّؤيا- كأحد إعلانات الله عن نفسه «هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسرَائِيلَ وَفَادِيه، رَبُّ الجُنُود، أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيرِي» (44: 6)، وفي 48: 12 «اِسمَع لِي يَا يَعقُوبُ. وَإِسرَائِيلُ الَّذِي دَعَوتُهُ. أَنَا هُوَ. أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِر» (لاحظ كذلك 41: 4). في هذه الفصول التي تردُ فيما يسميّه العلماء بـ «سفر إشعياء الثاني» تظهر هذه التسميات كأحد العناصر المهمّة التي تكشف للبشر الله إله إسرائيل باعتباره الخالق الوحيد لكُلّ العوالم وكالرّب المُتحكّم صاحب السّلطان على التاريخ البشريّ؛ تلك الحقيقة التي يشرحها سفر إشعياء الثاني بمُنتهى الرّوعة والاتقان ليضع لنا الله في مُقابل آلهة بابل الوثنيّة العاجزة. وعلى عكس الآلهة التي يصنعها البشر فهذا الإله لا يُضاهيه ولا يُشابهه أحدٌ، إذ يخضع له كُلُّ البشر ولا يمكن لخُططه أن يُحبطها أحد (راجع إشعياء 40: 12- 26). هذا الإيمان التوحيديّ يُحدّدُ بدقّة ملامح كتاب الرّؤيا. من هنا تأتي الأهميّة الفريدة لما يُسمّيه كتابُ الرُؤيا «الأَلِفُ وَال يَاء». إنّ الله يسبق كُلّ الأشياء في وجوده كخالق، كما أنّه يُحضر كُلّ شيء إلى نهايته في أواخر الأيام. إنّه أصلُ التاريخ وغايتُه ومنتهاه، وهو صاحب الكلمة الأُولى في الخليقة وله الكلمة الأخيرة في الخليقة الجديدة. لذا فضمن البنيّة الأدبيّة الأساسيّة لرُؤيا يُوحنّا يتكلّم الله مرتين مُبيّنًا -في بداية الرُؤيا اليُوحنّاويّة- أنّه هو الله «الأَلِفُ وَاليَاء» (1: 8)، ثم عند إعلان التتميم الاسخاتولوجي لهدفه من الخلق يقول «قد تمّ» (21: 6).
أمّا صيغةُ «البِدَايَةُ وَالنهَايَة» فقد اُستُخدمت في الأدب الفلسفيّ اليونانيّ التقليديّ لكي تُوضّح أزليّة الله، ثم اقتبسها الكُتّاب اليهُود من أمثال يوسيفوس الّذي كان يقول إنّ الله هو «بداية كُلّ الأشياء ونهايتها» (ضد 8: 280؛ الغرس والنبات 93). ويُعطي يُوحنّا أهميّةً إضافيّة لتعبير «الأَلِفُ وَاليَاء» أكثر من التعبيرين الآخرين، رُبّما لأنه يربطه مع الاسم الإلهيّ (الوارد في إشعياء). إنّ الاسم الإلهيّ «يهوه» كان يُنطق «ياهو»، وهكذا تُرجم أيضًا إلى اللغة اليونانيّة إذ لا يُوجد باليونانيّة حرفُ الهاء العبريّ.[2] وفي سياق التكهُّن بخصوص اسم الله في اللاهوت اليهُوديّ، فإنّ الحرف الأوّل والحرف الأخير من الأبجديّة اليونانيّة -في صيغة الاسم الإلهيّ الوارد هنا- يُمكن لهما معًا أن يعكسا حقيقة أزليّة وأبديّة الله. إنّ هذه الصّيغة التي تأتي في فاتحة السفر (1: 8) تعكس الحقيقة التي وردت قديمًا في سفر إشعياء؛ الأوّل والآخر.
«الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي»
تردُ هذه التسمية الإلهيّة خمس مرّات مع اختلافات طفيفة في كُلّ مرّة:
- «... نِعمَةٌ لَكُم وَسَلاَمٌ مِنَ ال كَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي» (1: 4).
- «الرّبُّ الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي» (1: 8).
- «الرّبُّ الإلهُ... الَّذِي كَانَ وَالكَائِنُ وَالَّذِي يَأتِي» (4: 8).
- «الرَّبُّ الإِلهُ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ، الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي» (11: 17).
- «عَادِلٌ أَنتَ أَيُّهَا الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمتَ هكَذَا» (16: 5).
من المُرجح أن يكون هذا النموذج العدديّ الّذي يردُ هُنا مُتعمّدًا؛ إذ تُستخدم الصّيغة ذات الأزمنة الثلاثة ثلاث مرّات، بينما تُستخدم الصّيغة ذات الزّماني ن مرتي ن فقط. [3]
وهذه التسمية هي تفسيرٌ للاسم الإلهيّ «يهوه». وعلى طول العهد القديم لا يأتي شرحٌ لهذا الاسم الجليل إلا في خروج 3: 14 إذ يقترن الاسم هنا بالصّيغة To be وتُترجم أيضًا بالعبارة الغامضة «أهيه الّذي أهيه»، أو بأكثر تبسيط «أهيه – التي تعني سوف أكون». لقد فسّر علماءُ اليهُود اللاحقون تلك الكلمات على أنّها دليلٌ للسرمديّة الإلهيّة. لذا فإنّ فيلو (موسى 1: 75) قد فهم الاسم الإلهيّ بـ «الواحد الّذي هو The One who is» ممّا يُظهر أنّه يُعبّر عن سرمديّة الله في ثوبٍ فلسفيّ هلينيّ (يونانيّ) لكي يكشف اللانهائيّة الزمنيّة لله. بدلًا من ذلك تمكّنت اللغات المُعاصرة من تفكيك معنى هذه الكلمة إلى وجودٍ إلهيّ في الماضي وفي الحاضر وفي المُستقبل. بنفس هذه المعاني اقتبس الترجوم الفلسطينيّ (ترجوم يوناثان المنحول) الاسم الإلهيّ «أهيه الّذي أهيه» (قارن أيضًا وحي سبيلين 3: 16). ولقد اُستخدمت هذه الصّيغة الثلاثيّة للتعبير عن الوجود الكامل لآلهة اليونانيين وإله الفلسفة الأعلى قديمًا.[4] وقد أثّر هذا الاستخدام الإغريقيّ على الفهم اليهُوديّ لمعنى هذا الاسم، لكن رُؤيا يُوحنّا اعتمدت مباشرةً على هذا الفهم اليهُوديّ أكثر ممّا اعتمدت على أيّ تفسيرات أخرى.
وفي الأصل اليونانيّ للصيغة التي استخدمها يُوحنّا في 1: 4، 8 يتّفق يُوحنّا مع الترجوم في إعطاء أولويّة للوجود الحالي لله (الوجود في حال المضارع «يكون») ويبتعد كثيرًا عن الوجود في الحالات الأخرى اليهُوديّة واليونانيّة، لهذه الصّيغة الثلاثيّة في جزئها الثالث (لا يقول «الّذي سيكون» بل يقول «وَالَّذِي سيَأ تِي»). وكما هو الحال في اللغة الإنجليزيّة/العربيّة فالمعنى في اليونانيّة يُعبّر عن المستقبل «الَّذِي سيَأ تِي». وعلى هذا فالكلمة «الدّهر الآتي» تعني «الدّهر المُستقبليّ»، لكن يُوحنّا الرّائي يستفيد من هذا المعنى مرّتين عند التعبير عن مستقبل الله: ليس فقط الوجود المُستقبليّ لله، بل أيضًا مجيئه للعالم للخلاص وللدينونة. لا شك أن يُوحنّا دارت في مُخيلته تلك المقاطع الكتابيّة الواردة في العهد القديم التي تُنبئ بمجيء الله لخلاص شعبه ولدينونة الأشرار (على سبيل المثال: مزمور 96: 13؛ 98: 9؛ إشعياء 40: 10؛ 66: 15؛ زكريا 14: 5) وهي نفس النبوات التي فهمها المسيحيّون الأوائل كالمجيء الاسخاتولوجيّ لتحقيق المواعيد بشكلٍ نهائيّ وكامل لغرض الله من وراء الخليقة. هذا المجيء الّذي عبّروا عنه بـ «ظهور يسُوع المسيح – باروسيا».
ويُؤكّدُ هذا التفسير عند الرّجوع إلى استخدام الكلمة في 11: 17، 16: 5. ففي الصيغة المُختصرة لهذه العبارة «ال كَائِنُ وَالَّذِي كَان» نلاحظ أنّ المجيء الإلهيّ الاسخاتولوجيّ قد تحقّق بالفعل في هذين المقطعين من الرُؤيا اليُوحنّاويّة. إنّ تحقُّق الغرض الإلهيّ الاسخاتولوجيّ قد تمّ بالفعل ولم يعُد هذا الخلاص أمرًا مُستقبليًّا. لذا فإنّ ترنيمة الخلاص قد أُنشدت. إنّ هذا المعنى واضحٌ بشكلٍ مُطلق في 11: ١٦-١٧ «وَالأَر بَعَةُ وَال عِش رُونَ شَي خًا ال جَالِسُونَ أَمَامَ اللهِ عَلَى عُرُوشِهِم ، خَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِم وَسَجَدُوا ِلله قَائِلِينَ: «نَشكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَي ءٍ، الكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأتِي، لأَنَّكَ أَخَذتَ قُدرَتَكَ العَظِيمَةَ وَمَلَكت». لقد تحقّق ملكوتُ الله الاسخاتولوجيّ في العالم بمجيئه، وهذا الجزء الثالث والأخير من الوصف الإلهيّ «الَّذِي يَأتِي» قد اُستُبدل بترنيمة الشّكر المُستحقة بسبب إتيان ملكوته على العالم.
وكما أسلفنا، يُوضّح يُوحنّا الاسم الإلهيّ ليس فقط في جوهر معناه مجرّدًا، بل أيضًا في ارتباط هذا الاسم العظيم بتحقيق الملكوت الإلهيّ في العالم. هذا هو إلهُ الكتاب المُقدّس الّذي اختار كيف يكون مُستقبله مُرتبطًا بخليقته ومفدييه، الإله الّذي تجد خليقتُه مُستقبلها فيه (راجع 21: 3). علاوةً على هذا فإنّ هذا المعنى للاسم الإلهيّ يستقيم مع ذلك الوارد في خروج 3: 14 والّذي لا يُشيرُ إلى اسم الله في ذاته بل بالأحرى إلى الله الّذي قطع على نفسه التزامًا عهديًّا بأنّ يكون مع شعبه مُخلّصًا لهم. لقد طوّر يُوحنّا هذا الإيمان اليهُوديّ بوجود الله تاريخيًّا لخلاص شعبه تطويرًا مُميّزًا ليصبح لاحقًا الإيمان الاسخاتولوجيّ بالمجيء الإلهيّ، ليُحضر كُلّ الأشياء إلى تمامها واكتمال تحقيقها في المُستقبل الأبديّ.
[1] راجع الفصل الخامس من هذا الكتاب.
[2] E.g. the Hadrumetum magical text، quoted in E. Schiirer، The History of the Jewish. People in the Age of Jesus Christ، revised and ed. G. Vermes، F. Millar، M. Goodman، vol. in: I (Edinburgh: T. & T. Clark، 1986)، 358.
[3] من الواضح أنّ النص اليونانيّ الأصليّ وكذلك الترجمة التي يعود إليها المؤلّفُ هنا يختلفان عن ترجمتنا العربيّة فان دايك (المُعرّب)
[4] TD\T 2.399; ) Theological Dictionary of the New Testament ( D. E. Anne، Prophecy in Early Christianity and the Ancient Mediterranea World (Grand Rapids: Eerdmans، 1983)، 2 8 0 - 1.