من كتاب الفكر اللاهوتي في سفر الرؤيا
تأليف
ريتشارد بوكهام
ترجمة
أشرف بشاي
يردُ هذا الوصف سبع مرّات في سفر الرُؤيا (1: 8؛ 4: 8؛ 11: 17؛ 15: 3؛ 16: 7؛ 19: 6؛ 21: 22). ترتبط المرّات الأربع الواردة في 1: 8، 4: 8، 11: 17، 16: 5-7 مع هذه السّمة التي ناقشناها للتو. وتردُ الصّيغة الأقصر «الرّب القادر» مرتين في 16: 14، 19: 5 لكي يكتمل الرّقم المهم 7 (عدد الكمال) الّذي يُشيرُ إلى مُنتهى وكمال القدرة الإلهيّة.
تقترن هذه السّمة بالاسم الإلهيّ إذ هي الترجمة القياسيّة للصيغة الأوسع للاسم الإلهيّ «يهوه» (الرّب، LORD ربّ الجنود) راجع (صموئيل الثاني 5: 10؛ إرميا 5: 14؛ هوشع 12: 5؛ عاموس 3: 13؛ 4: 13)، كما يستخدمها يُوحنّا أيضًا كمُقارنة بين 4: 8 مع إشعياء 6: 3). إنّها تُعادل الصّيغة القصيرة «يهوه» (ربُّ الجنود) وهي الصّيغة كثيرة التواتُر في العهد القديم إذ هي تشير إلى قوّة الرّب التي لا تُضاهى، والتي تسود وتتحكّم في كُلّ شيء، وبالتالي تكشف تفوٌّق الله على كُلّ أحداث التاريخ. واستخدام هذه الصّيغة في كتاب الرُؤيا يكشف عن رغبة يُوحنّا في استكمال الإيمان النبويّ بإله إسرائيل. إنّ الكلمة اليونانيّة pantokrator التي تُترجم بـ «القادر» لا تكشف الكثير عن القدرة المُطلقة الكُلّيّة لله التي تُمكنه من السّيطرة الفعليّة على كُلّ شيء.
الجَالِس عَلَى العَر ش
هذه التسمية هي آخر التسميات الأربع المهمّة الواردة في سفر الرُؤيا عن الله، ويردُ ذكرُ هذه التسمية سبع مرّات على طول السفر (4: ٩-١٠؛ 5: 1، 7، 13؛ 6: 16؛ 7: 15؛ 21: 7). ويُستخدم هذا الاسم أيضًا بطُرُق مُختلفة في 4: 2-3؛ 7: 10؛ 19: 4 قارن كذلك 20: 11). بالإضافة إلى ذلك فإنّ العرش السّماويّ الّذي يجلس الله عليه يُشارُ إليه مرّاتٍ عديدة، إذ هو واحدٌ من الرّموز الجوهريّة في السفر. فمن وجهة نظر لاهوتيّة يُشيرُ هذا الوصف إلى سيادة الله المُطلقة فوق جميع الخلائق والأشياء.
وتظهر هذه الصّورة البديعة بأوضح صورة في الأصحاح الرّابع من السفر حيث نكتشف كقُرّاء حُجرة العرش الإلهيّ. فبعد رؤية المسيح المُقام مع شعبه على الأرض (1: 9- 3: 22)، أُخذ يُوحنّا إلى السّماء (4: 1). يُعطي هذا العدد نقطتين للانطلاق في أجواء هذا السفر: موقف الكنائس السّبع وأوضاعها كما هو مُدوّن في رسائل المسيح إليها، ثم ثانيًا رؤية سيادة الله في السّماء. إنّ رؤية هذه السّيادة الإلهيّة مكّنت يُوحنّا من توسيع منظور الرؤية لدى قُرّائه حتى يستكشفوا موقفهم الأرضيّ بشكلٍ أفضل، من خلال وضع هذا الموقف في قرينة أوسع للقصد الإلهيّ الكونيّ الّذي يتغلّب على كُلّ العقبات أمام إرساء دعائم ملكوته وتأسيس حكمه في العالم. وفي الأصحاح الرّابع تُرى سيادة الله كاملة في السّماء. إنّ هذا الفصل يُؤصّل ويُؤسّس لتلك الحقيقة الواقعيّة التي ستنتشر من السّماء إلى الأرض. تتحدّى قواتُ الشّر مقاصد الله على الأرض بل تطعن تلك القوات في تأكيد سيطرة الله الكاملة على كُلّ الأشياء مُدعيّة الألوهيّة لنفسها، لكن السّماء هي مجال الحقيقة المُطلقة: فما هو حقيقيّ في السّماء يجب أن يكون كذلك بالنسبة للأرض. لذا فقد أُخذ يُوحنّا إلى السّماء لكي يرى تلك الحقيقة المُطلقة الكامنة خلف الظّواهر الأرضيّة. ولأنّ يُوحنّا قد عاين سيادة الله الكاملة في السّماء لذا استطاع أن يرى ضرورة أن تُصبح تلك السّيادة حقيقةً على الأرض أيضًا.
إنّ رؤية العرش الإلهيّ في السّماء تعود إلى التقاليد النبويّة في العهد القديم (قارن ملوك الأوّل 22: 19-23)، وهي أيضًا إحدى الملامح المُميّزة للأبوكريفا اليهُوديّة.[1] من داخل هذه التقاليد يكتب يُوحنّا رُؤياه مثل مُعظم الكُتّاب الرّؤيويين مُنطلقًا من رُؤيتين نبويّتين عظيمتين للعرش الإلهيّ يردُ ذكرُهما في إشعياء 6 وحزقيال ص 1. كذلك فمثل كُلّ الكُتّاب الرّؤيويين يجعل يُوحنّا العرش الإلهيّ في السّماء حيثُ الكائنات السّماوية تُشارك في عبادة سماوية حول العرش. إنّ كُلّ ما ورد في الأصحاح الرّابع من الرُؤيا قد سبق ذكرُه في كتابات اليهُود الرّؤيويين، لكن عندما نستمر في رُؤيا حمل الله؛ يسُوع المسيح، في الأصحاح الخامس باعتباره الشّخص الّذي سيحقّق ملكوت الله على الأرض، وباعتباره الشّخص الّذي سيتكلّم عنه يُوحنّا في الفصول اللاحقة، عندها فقط يُمكننا تبيان الفكر اللاهوتي لسفر الرُّؤيا، هذا الفكر المُميّز عن الكتابات اليهُوديّة. إنّ غلبة الطّابع اليهُوديّ وغياب الطّابع المسيحيّ عن الأصحاح الرّابع من الرُؤيا لا يُقلّل -بلا شك- من أهميّة هذا الأصحاح للفكر اللاهوتي لسفر الرّؤيا. ففي سفر الرُؤيا كما في كتابات العهد الجديد الأخرى ينطلق الكُتّاب المُوحى لهم بالرّوح من قاعدة التوحيد اليهُوديّ. إنّهم يأخذون في الحسبان الفكر اليهُوديّ عن الله في كُلٍّ من الأسفار المُقدّسة العبريّة وكتابات التقليد اليهُوديّ المُتأخّر. بدون هذا التحسُّب ما كان مُمكنًا أن نُحدّد التطوُّر اللاهوتيّ المُميّز للكرستولوجيّ الوارد في هذا السفر. هذا التطوُّر في الفكر الكرستولوجيّ سيكون موضوع اهتمامنا في الفصل التالي. في هذا الفصل نحن نهتم بالمُصطلحات التي ترتبط بالتوحيد اليهُوديّ وهي مُصطلحات لا غنى عنها.
مثل غالبيّة كُتّاب الرّؤيويات الّذين كتبوا عن العرش الإلهيّ لا يُطيل يُوحنّا النظر إلى الشّخص الجالس على العرش. قال يُوحنّا عن العرش الإلهيّ إنّه يبدو كحجارة كريمة (4: 3). كان ذلك الوصف نوعًا من الأوصاف التقليديّة التي تُجسّد روعة الأشخاص/الأشياء السّماويّة. وبدلًا من مُحاولة التركيز على الله غير المُدرك فإنّ الرّائي ينشغل بالعرش ذاته وبما يدور حول العرش، ففي هذه المُفردات التي تتواجد حول العرش يُمكن للرائي وللقارئ أن يقتربا قليلًا من معرفة الجالس فوق العرش ولا سيّما من خلال الملمح البارز للعبادة المستمرّة الصّادرة عن الكائنات الحيّة الأربعة وكذا عن الأربعة والعشرين شيخًا. إنّ مشهد العبادة الّذي يتشارك من خلاله القارئ في إيمان الرّائي هو مشهد جاذب بالكُلّيّة. هُنا يتمُّ تذكيرُنا بأنّ المعرفة الحقيقيّة بهُويّة الله هي جُزءٌ لا يتجزّأ من العبادة لله. أمّا ترنيمة الكائنات الحيّة الأربعة والمزمور الّذي أنشده الشّيوخ الأربعةُ والعشرون فيُعبّران عن الصّيغتين الأساسيتين للإدراك الرّوحيّ الخاص بالله: الرّعب الكامل في حضرته بسبب قداسته المُطلقة (4: 8 قارن إشعياء 6: 3)، ثم الإدراك بأنّ وجود كُلّ كائن حيّ يعتمدُ أساسًا على الله الّذي يُوجد المخلوقات ويحفظُها في الوجود (4: 11). إنّ هذه الصّيّغ الأساسيّة ليست فقط مطلوبة خلال التعبير عن عبادتنا، بل أيضًا لا يمكن أن تُختبر بشكلٍ حقيقيّ إلا من خلال العبادة.
وتختلط الصّور السّياسيّة والحضاريّة معًا في رُؤيا يُوحنّا. تبرز الصّور الحضاريّة لأنّ قاعة العرش الإلهيّ هي المقدسُ السّماويّ (قارن ما كُتب لاحقًا في 11: 19؛ 15: 5- 8). لقد شابهت هذه الصّورة ما هو قائمٌ في الهيكل الأرضيّ. إنّ الخلائق السّماويّة التي تجمع بين سرافيم إشعياء (6: 2) وشاروبيم حزقيال (1: 5- 14) ترمز إلى ملاكيّ الرّحمة اللذين يُحيطان بغطاء تابوت العهد الموجود بقُدس الأقداس في الهيكل الأرضيّ (الخروج 25: 18- 22). إنّها مخلوقات سماويّة لم تُخلق إلا لعبادة الجالس على العرش. فعبادتُهم التي لا تنقطع حول العرش تُمثّل طبيعة مركزيّة الله الكامنة في قلب الحقيقة. إنّها عبادة توجد فقط من أجل تمجيد الله. من أجل ذلك فالملائكة هُم المُتعبّدون الأساسيّون الّذين تتّخذ عبادتهم شكل الدّوائر الخارجيّة الأوسع. وفي الأصحاحي ن الرّابع والخامس تتّسع هذه الدّوائر الخارجيّة لكي تشمل كُلّ الخلائق الكونيّة (5: 13). في هذه العبادة التي تُقدّمها كُلّ الخليقة لله وللخروف (5: 13) يتحقّق القصدُ الإلهيّ الاسخاتولوجيّ الّذي كانت الخليقة تتوقّعه. لذا، وبشكلٍ مناسب، فإنّ الخلائق الكونيّة التي تُمارس العبادة بشكلٍ دائم تختم صلواتها بالـ «آمين» عندما يتحقّق الهدف بشكلٍ كامل (5: 14).
حريٌّ بنا أيضًا أن نُلاحظ كم تبتعد هذه العبادة عن «مركزيّة الإنسان». لقد اٌستُبعد كُلُّ ما هو إنسانيّ من المشهد تمامًا إذ يميل البشر إلى إقحام أنفسهم فيه. إنّ قلب الخليقة وهدفها الاسخاتولوجيّ يصبوان إلى مركزيّة الله، إذ يتوجّهان بالعبادة نحو الله الخالق. ولكن حتى بين العابدين، لن يكون البشر الأكثر لمعانًا وتوهُّجًا في العبادة. إنّ الكائنات الحيّة الأربعة التي تقود العبادة لا تُصوّر على أنّها كائنات بشريّة، بل نجد أنّ الكائن الحيّ الثالث فقط هو من له وجه يشبه وجه إنسان أمّا الثلاثة الآخرون فيُشبهون الأسد والثور والنسر. وبالأجنحة السّتة، وبالعيون التي لا تُحصى ولا تُعدُّ يتفوّقون سماويًّا على كُلّ الخلائق الأرضيّة (4: 6-8). إنّ وظيفتهم هي تمثيل الخلائق في تقديم العبادة الواجبة لله، وبالتالي تجد هذه الكائنات شبعها حينما تتّسع دائرة العبادة لتشمل لا البشر فقط بل أيضًا «وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَر ضِ وَتَح تَ الأَر ضِ، وَمَا عَلَى ال بَح رِ، كُلُّ مَا فِيهَا» (5: 13). وكما أنّ الصّورة الطّقسيّة موجودة كذلك الصّورة السّياسيّة موجودة أيضًا. إنّ قاعة العرش السّماويّ هي المكان الّذي منه يُمارس الله مهام حُكمه على العالم، أمّا مُصطلح الشّيوخ الأربعة والعشرين فهو مُصطلحٌ سياسيّ أكثر منه مصطلح طقسيّ، وهُم كائنات سماويّة يُشكّلون أعضاء المجلس السّماويّ (قارن إشعياء 24: 23؛ دانيآل 7: 9؛ أخنوخ الثاني 4: 1؛ اللاويين 3: 7). ويظهر من عروشهم وتيجانهم (4:4) أنّهم هُم أنفسُهم حُكّام. إنّهم يحكمون العالم السّماويّ نيابة عن الله. وهُم أيضًا يتعبّدون لله لكنهم إنّما يمارسون عبادتهم من خلال إظهار الطّاعة والنزول عن عروشهم وخلع أكاليلهم وطرحها أمام العرش الإلهيّ (4: 10). وبالتالي فهُم يدركون أنّهم كخلائق (4: 11) يستمدّون سلطانهم بالكامل من الله ذاته. إنّه وحده من يستحق العبادة الكاملة باعتباره مصدر لكُلّ قوّةٍ وسُلطان.
إنّ المزج بين الصّورة الطّقسيّة والصّورة السّياسيّة في هذا المشهد لرسم صورةٍ لله باعتباره مصدر لكُلّ علم وهدف لكُلّ الأشياء هو أمرٌ تقليديّ ومُتّبع في الأدب الرّؤيويّ وهو أمر يتوافق، إلى حد كبيرٍ، مع القرينة السّياسيّة والدّينيّة والظّروف التي كُتب فيها سفر الرّؤيا. ومثل كُلّ امبراطوريّات العالم القديم كانت الامبراطوريّة الرُّومانيّة تدّعي أنّ سبب قُوّتها هو آلهتها التي تتعبّد لها. لقد شارك الأباطرةُ الآلهة الرُّومانيّة القديمة في قبول العبادة في مزيج صنع دينًا واحدًا للدولة يُظهر الولاء السّياسيّ من خلال العبادة. بهذه الطّريقة ادّعت روما استحقاقاتها كسيّدة للعالمين مُؤكّدةً قوّتها وسيادتها على الجميع. يبدو المشهد السّماويّ الّذي رآه الرّائي في الأصحاح الرّابع بمثابة ردًّا إلهيًّا على ادعاءات روما بسلطانها فوق الجميع. لذا فإنّ مجيء ملكوت الله على الأرض هو استبدال الادعاءات الرُّومانيّة بالسّيادة بنوع آخر من السّلطان الإلهيّ؛ سُلطان الجالس على العرش السّماويّ. ومن الأهميّة بمكان أن نُشير إلى أنّ هذا الصّراع حول أحقيّة العبادة وادّعاء السّيادة هو أحد الملامح الرّئيسيّة في كُلّ سفر الرّؤيا. إنّ اغتصاب روما لاستحقاق العبادة الإلهيّة واضحٌ في طلب الوحش للعبادة من الجميع (13: 4، 8، 12) بينما تحقيق ملكوت الله واضحٌ في تقديم العبادة الكونيّة لله (15: 4؛ قارن 19: 5-6).
وخلال الصّراع حول السّيادة يرسم الرّائي خطًّا فاصلًا بين هؤلاء الّذين يتعبّدون لله وأولئك الّذين يسجدون للوحش. وفي كُلّ مرحلة من مراحل انتصار الله على الشّيطان (الأصحاح السابع إلى الأصحاح التاسع عشر) يُكرّر الرّائي مشهد العبادة الّذي يحدث في السّماء. إنّ موضوع العبادة الحقيقيّة والمُزيّفة هو موضوعٌ جدُ أساسيّ بالنسبة في النظرة النبويّة لهيكل السُّلطة الخاص بالعالم الّذي يعيش به القُرّاء. في نهاية الأمر، يرى يُوحنّا أنّ العبادة التوحيديّة التي يُصوّرها الرّائي لا تتوافق مع كُلّ أشكال الوثنيّة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي لا تنفصل عن الزّنا الرّوحيّ بالمفهوم الضّيّق للكلمة.
[1] قارن دانيآل 7: 9-10؛ أخنوخ الأوّل 14؛ 60: 1-6، 71؛ أخنوخ الثاني 20-1؛ رُؤيا إبراهيم 15- 18.